Home تاريخ و تراث الفينيقيو/البونيون…كيف لمجموعة تُجّار أن تبني حضارة ولغة مشترَكة في شمال إفريقيا “عجزت عنها في بلادها”…؟

الفينيقيو/البونيون…كيف لمجموعة تُجّار أن تبني حضارة ولغة مشترَكة في شمال إفريقيا “عجزت عنها في بلادها”…؟

by Mohamed Redha Chettibi
0 comment
A+A-
Reset

بقلم المؤرخ المبدع الدكتور فوزي سعد الله

سألني:
كيف للفنيقيين أن يبنوا حضارة في شمال إفريقيا وهم مجرد مجموعات تجار ولا كانوا إمبراطورية، كالرومان والفرس، ذات حضارة في موطنهم الأصلي، وبالتالي، “من المستحيل أن يبنوا حضارات في المدن الجزائرية (ساحلية كانت أم داخلية) (…) (مما لا Ndlr) يسمح لهم بالتمدد والإنتشار في الدول المغاربية الأربعة (الأمازيغية سابقا).. مستحيل.”. و”إذا كانت هناك حضارة فينيقية فعلا في الجزائر مثلا.. فلماذا سميت المدن (شرشال الجزائر تيبازة) بأسماء غير عربية علما أن الفينيقيين، مثلما يتردد، كنعانيون عرب؟”. و”لماذا لم يبدأ الفينيقيون بالدول التي بجوارهم فينشروا فيها حضارتهم ولغتهم وثقافتهم وعاداتهم مثل تركيا وقبرص واليونان ومصر وإيطاليا وغيرها؟.. بالتالي: حكاية الأصل الفينيقي للشعب الجزائري لم تقنعني.
وأجَبْتُ:
مع كل احترامي سيدي الكريم، أنت حر في قناعاتك ومن حقك ألا تقتنع. لكن، لا يبدو لي أن معلوماتك على قدر كاف من الدقة والوضوح بشأن هذا الموضوع. والاستنتاجات منطقيا تكون على قدر المعطيات المتيسرة التي تشكل المنطلقات…
بعيدا عن الجدل القائم حاليا في الجزائر، الفينيقيون لم يكونوا إمبارطورية، لكنهم لم يكونوا مجرد مجموعة من التجار… والحضارة لا تُبنَى بالضرورة بالإمبراطورية، بل يكفي أن تكون دولة مستقرة وآمنة ومزدهرة اقتصاديا وعادلة نسبيا على مدى زمني كاف لتتشكل فيها الحضارة.
أما وجودهم في شمال إفريقيا، فَقَدْ تطوَّرَ إلى إقامة دولة قوية هي قرطاجة التي أشَعَّتْ ليس على إقليمها القريب فحسب بل حتى على دول جنوب غرب أوروبا، وهذا أيضا معروف ومُسَلَّم به في الأوساط المتخصصة…وأهل قرطاجة ليسوا من المريخ بل هم أجدادنا ونحن، بشكل أو بآخر، احفادهم…
من جهة أخرى، صفة “الأمازيغية سابقًا”، على حد قولك، لشمال إفريقيا يجب أن تسندها القرائن التاريخية وإلا تبقى مجرّد وصف ذاتي، لأن سكان شمال إفريقيا لم يكونوا لا عرقا واحدا ولا قبيلة واحدة ولا تحدثوا بلسان واحد قبل انصهارهم نسبيا بعد تشكل وازدهار قرطاجة التي كانت، حسب أهل الاختصاص، أصل المَدَنِيَة والحضارة بشمال إفريقيا إلى غاية اكتشافات ومعطيات جديدة مستقبلا تبيِّن العكس..وهذا يبقى ممكنا نظريا على الأقل…
و في الحقيقة، لا نعرف مُدنا في شمال إفريقيا قبل الوجود الفينيقي، وأقدم المدن المعروفة كلها فينيقية بونية كمدينة الجزائر وشرشال وقسنطينة…إلخ. وربما تتغير هذه الأحكام مستقبلاً في حال اكتشاف قرائن أثرية تاريخية جديدة تغير فهم الباحثين لتلك الحقبة…
سكان شمال إفريقيا قبل الإسلام بقرون طويلةكانوا متعددي الأجناس والأعراق جاؤوا، حسب الظروف، من المشرق، من إفريقيا جنوب الصحراء، من جهات إفريقية أخرى كإثيوبيا، من إٍسبانيا وإيطاليا واليونان ومجمل جنوب أوروبا…، وبالتالي كانوا تقريبا كما نحن اليوم، وككل المجتمعات البشرية، خليطا منصَهِرا نسبيًا من الأقوام…
لذا، تعددتْ مبدئيًا الألسنة قبل انصهارها تدريجيا، بحلول الفينيقيين بالمنطقة، في اللسان الكنعاني/الفينيقي الذي تأثر بدوره نسبيا بهذه الألسنة، لاسيما بألسنة الأمم الكبرى كاليونانية واللاتينية لاحقا، وأصبح محليا يُعرف باللغة البونية (وهي نفسها عبارة البونيقية المنقولة عن اللاتينية PUNIC مع تحويل حرف “C” إلى حرف “ق”) أو الفينيقية البونية. وهذا ما تشهد عليه الكثير من المصادر، بما فيها شهادة القديس أغسطين البوني (Saint Augustin)… ألم تكن العربية لغة الأندلس في مجتمع متعدد الأعراق والجنسيات والثقافات كما في بغداد العباسية وقبلها دمشق الأموية وكما هي الإنجليزية اليوم في واشنطن الأمريكية وفي لندن البريطانية…؟
أسماء المدن لا بد، منطقيا، أن تكون بلغة ذلك العهد، أي الفينيقية البونية، وهذا ما حدث. واللغة العربية ليست اللغة الفينيقية البونية، يا سيدي حتى تُسمى المدن بالعربية. وإنما هي، كالفينيقية البونية ذاتها، مجرد فرع من فروع الكنعانية. وتؤكد بعض الدراسات المتخصصة، وهذا قابل للنقاش طبعا، استنادا الى الكثير من القرائن التاريخية /اللسانية وُجود “لغة عربية أم” تفرعت عنها كل اللغات المتشابهة والتي تُسمى غالبا “السامية”، وهذا التصنيف أيضا قابل للنقاش…
ما العلاقة إذن بين الفينيقية البونية والعربية…؟ العلاقة هي الأصل المشترَك والمنابع المشتركة، أي اللسان أو الألسنة الأم، وهي بشكل عام الأكادية والسومرية والمصرية القديمة… وليس من الصدفة أن نجد عبارات كثيرة وصيغ نحوية كثيرة مشتركة بين هذه اللغات القديمة التي تبدو أحيانا وكأنها لهجات للغة أم… على سبيل المثال، استخدام الهمزة (أ) وحرف الحاء (ح) كأداة تعريف تقابل “الـ” التعريف في اللغة العربية كما هو الشأن، على التوالي، في جيجل (مثال: حَالْمُوسْ أو حَالشَّحْمَة أو حَالْكَبْشْ…) وفي جرجرة وبجاية وغيرها ( مثال: أَعْرَابْ، بمعنى العَرَبي، وأَكْسُومْ، بمعنى اللَّحْم، وأَمُقْرَانْ (وهي عربية قديمة موجودة إلى اليوم في ظُفار بعُمَان وباليمن))، بمعنى الرجل…) …استخدام “أ” و”ح” كأداة تعريف اليوم عندنا هو الاستخدام ذاته للتعريف في الفينيقية البونية الذي لا يمكن ان يكون صدفة من الصدف… وبالتالي، هذا امتداد لذاك…
أما “ما يتردد…”، على حد تعبيرك يا سيدي الكريم، فأنا لستُ مسؤولا عنه ولم يَرِد في نصي…
أما سؤالك: …”فلماذا لم يبدأ الفينيقيون بالدول التي بجوارهم فينشروا فيها حضارتهم ولغتهم وثقافتهم وعاداتهم مثل تركيا وقبرص واليونان ومصر وإيطاليا وغيرها؟”. هنا يتعيّن أن تبحث أكثر في الموضوع قبل أن تحكُم، لأنهم أثَّروا تأثيرا عميقا في ثقافة هذه الدول والتأثير موجودة آثاره إلى اليوم في المأكل والمشرب واللسان والأسماء، لاسيما أسماء الأماكن والمدن، والعادات والحِرف…إلخ. مثلا: الأفران الفينيقية كانت موضة في اليونان القديمة، وفي كامل حوض المتوسط تقريبا، والخبازون الفينيقيون كانوا مفضَّلين في أثينا عاصمة اليونان في فترة ما من تاريخها. الصناعات النسيجية الفينيقية أيضا، مع عادات اللباس، والمجوهرات تركت بصماتها… هذه الأخيرة ما زال صداها موجودا إلى اليوم في مجتمعات المغرب العربي، فقط تعودنا أن نسميها “أمازيغية” أو “بربرية” و”شاوية” و…إلخ، بما في ذلك بعض الوِشام (جمع “وَشْم”)… وهي في الحقيقة من العادات البونية القرطاجية التي ترسخت في هذه المجتمعات التي بعد 8 قرون من الانصهار في الثقافة الفينيقية البونية أصبحت ثقافة واحدة لكل المكونات الديمغرافية للمنطقة. وهذا، مثلما وقع لمختلف الأعراق والأجناس والأديان في شبه الجزيرة الإيبيرية بعد العيش المشترَك في ظل الحضارة العربية الإسلامية حتى بلغت من النضج والتميز والاستقلالية هنا في الغرب الإسلامي ما جعلها توصف بالحضارة الأندلسية بعد عيش مشترك للجميع في كنفها هي أيضا دام 8 قرون. وكما أصبحت الحضارة الإسلامية في الغرب الإسلامي تسمى بعد نضجها الحضارة الأندلسية نسبةً إلى أرض الأندلس، أصبحت الحضارة الفينيقية في تطورها في المنطقة ذاتها، تقريبا، تُسمى بالحضارة القرطاجية نسبة إلى الأرض التي ازدهرت على ترابها هي الأخرى: قرطاجة (معناه قرية/مدينة جديدة)، وانتشرت ثقافتها بنسب متفاوتة حتى إسبانيا وفرنسا. وهناك من يشدد على وصولها إلى الجزر البريطانية وآيرلاندة وعلى تأثيرها في البريطانيين والأنجلوساكسونيين أنفسهم ..بعيدا عن الجدل القائم بينهم اليوم بهذا الشأن…
الفينيقيون البونيون في شمال إفريقيا، الذين عُرفوا بالقرطاجيين، هم أهل هذه المنطقة بكل مكوناتها الديمغرافية، بمن فيهم من درجنا على تسميتهم “البربر” والأمازيغ” وغيرها من المسميات، مع العلم أن هذه المسميات لم تكن موجودة ولا عرفوها آنذاك… لقد كانوا أمة واحدة بثقافة واحدة، مع تنوعها الديمغرافي، قبل أن يصلها المسلمون، والعرب على رأسهم، بمئات السنين…
ونحن، من ليبيا الغربية إلى تونس وعنابة حتى أغادير/تلمسان بالجزائر و أغادير المغرب، كلنا، بشكل أو بآخر، أحفادهم وخلفهم…
هذا، حسب ما أعرف عن الموضوع حتى الآن، كل ما في الأمر…
فوزي سعد الله
https://web.facebook.com/fawzi.sadallah

You may also like

Leave a Comment

روابط سريعة

من نحن

فريق من المتطوعين تحت إشراف HOPE JZR مؤسس الموقع ، مدفوعا بالرغبة في زرع الأمل من خلال اقتراح حلول فعالة للمشاكل القائمة من خلال مساهماتكم في مختلف القطاعات من أجل التقارب جميعا نحو جزائر جديدة ، جزائرية جزائرية ، تعددية وفخورة بتنوعها الثقافي. لمزيد من المعلومات يرجى زيارة القائمة «الجزائر الجزائرية»

من نحن

جمع Hope JZR ، مؤسس الموقع ومالك قناة YouTube التي تحمل نفس الاسم ، حول مشروعه فريقا من المتطوعين من الأراضي الوطنية والشتات مع ملفات تعريف متنوعة بقدر ما هي متنوعة ، دائرة من الوطنيين التي تحمل فقط ، لك وحماسك للتوسع. في الواقع، ندعوكم، أيها المواطنون ذوو العقلية الإيجابية والبناءة، للانضمام إلينا، من خلال مساهماتكم، في مغامرة الدفاع عن الجزائر الجديدة هذه وبنائها.

ما الذي نفعله

نحن نعمل بشكل مستمر ودقيق لتزويد الجمهور بمعلومات موثوقة وموضوعية وإيجابية بشكل بارز.

مخلصين لعقيدة المؤسس المتمثلة في “زرع الأمل” ، فإن طموحنا هو خلق ديناميكية متحمسة (دون صب في النشوة) ، وتوحيد الكفاءات في خدمة وطنهم. إن إصداراتنا كما ستلاحظون ستسلط الضوء دائما على الأداء الإيجابي والإنجازات في مختلف المجالات، كما تعكس منتقدينا كلما رأينا مشاكل تؤثر على حياة مواطنينا، أو تقدم حلولا مناسبة أو تدعو نخبنا للمساعدة في حلها. 

مهمتنا

هدفنا الفريد هو جعل هذه المنصة الأولى في الجزائر التي تكرس حصريا للمعلومات الإيجابية التي تزرع الأمل بين شبابنا وتغريهم بالمشاركة في تنمية بلدنا.

إن بناء هذه الجزائر الجديدة التي نحلم بها والتي نطمح إليها سيكون عملا جماعيا لكل المواطنين الغيورين من عظمة أمتهم وتأثيرها.

ستكون الضامن للحفاظ على استقلالها وسيادتها وستحترم إرث وتضحيات شهدائنا الباسلة.

© 2023 – Jazair Hope. All Rights Reserved. 

Contact Us At : info@jazairhope.org