في الذكرى الـ67 لأحداث ساقية سيدي يوسف، التي وقعت في 8 فبراير 1958، لا تزال هذه المجزرة تشكل علامة فارقة في تاريخ النضال التحرري الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي. هذه الأحداث، التي وصفها الكثيرون بأنها مجزرة وليست مجرد أحداث، تُذكرنا بوحشية الاستعمار الفرنسي وتضحيات الشعب الجزائري وشقيقه التونسي في سبيل الحرية والاستقلال.
الخلفية التاريخية
اندلعت حرب التحرير الجزائرية في الأول من نوفمبر 1954، بقيادة جيش التحرير الوطني، الذراع العسكري لجبهة التحرير الوطني. واجهت المقاومة الجزائرية أساليب وحشية من قبل الجيش الفرنسي، شملت التهجير القسري، الإعدامات، التعذيب، الاغتصاب، وحتى استخدام براميل النابالم. هذه الأساليب لم تثنِ الشعب الجزائري عن مواصلة نضاله، بل زادت من إصراره على التحرر.
في هذا السياق، لعبت تونس دورًا محوريًا كقاعدة خلفية لجيش التحرير الوطني. فقد قدمت الدعم اللوجستي، الطبي، والدبلوماسي، كما وضعت على ذمة الجيش الجزائري معسكرات للتدريب وقاعات للانسحاب. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت تونس المقر الرسمي للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وكانت الناطق الرسمي باسم الجزائر في المحافل الدولية.
معركة جبل الواسطة ومقدمات المجزرة
في 11 يناير 1958، حقق جيش التحرير الوطني انتصارًا كبيرًا في معركة جبل الواسطة بقيادة الرائد الطاهر الزبيري، حيث قُتل 17 جنديًا فرنسيًا وأُسر خمسة آخرين. هذه الهزيمة المذلة للجيش الفرنسي دفعت فرنسا إلى البحث عن ذريعة للانتقام، فاتهمت الحرس الوطني التونسي بمساندة جيش التحرير الوطني، وهو اتهام لم يكن له أساس من الصحة.
استغلت فرنسا هذه الذريعة لقصف قرية ساقية سيدي يوسف، التي كانت تشكل نقطة استراتيجية لوحدات جيش التحرير الوطني، خاصة بسبب وجود منجم الرصاص الذي كان يستخدم كقاعدة عسكرية. وكان الهدف من القصف هو إرهاب التونسيين ودفعهم للتخلي عن دعم الثورة الجزائرية.
مجزرة ساقية سيدي يوسف
في صباح يوم السبت 8 فبراير 1958، وفي وقت كان السوق الأسبوعية في القرية تعج بالناس، حيث كان يتم توزيع المساعدات الإنسانية على العائلات الجزائرية من قبل الهلال الأحمر التونسي والصليب الأحمر الدولي، أقلعت 25 طائرة فرنسية من قاعدة بون عناب (عنابة حاليًا) وقصفت القرية بوحشية.
استمر القصف لمدة ساعة، حيث ألقت الطائرات قنابل زنة كل منها 250 كيلوغرامًا، مما تسبب في دمار هائل. من بين الضحايا، كان هناك تلاميذ مدرسة ابتدائية حاولوا الاحتماء في فتحات منجم الرصاص، لكن الطائرات الفرنسية فتحت النار عليهم وقتلت 11 تلميذًا وأصابت العديدين بجروح خطيرة.
بلغ عدد الضحايا 26 شهيدًا و148 جريحًا، معظمهم من المدنيين، بما في ذلك أطفال ونساء. كما تم تدمير مركز الجمارك، مركز البريد، المدرسة الابتدائية الوحيدة في القرية، وإدارة الغابات والمناجم.
النتائج السياسية والدولية
أثارت مجزرة ساقية سيدي يوسف ضجة إعلامية دولية كبيرة، حيث انتقل الصحفيون والمراقبون الدوليون إلى مسرح الجريمة ووثقوا فظائع القصف الفرنسي. هذه الأحداث كشفت زيف الادعاءات الفرنسية بأنها كانت تستهدف مقاتلين من جيش التحرير الوطني، وأظهرت للعالم وحشية الاستعمار الفرنسي.
على الصعيد السياسي، أدانت الأمم المتحدة فرنسا، وسقطت الجمهورية الفرنسية الرابعة تحت وطأة الأزمات المتتالية، بما في ذلك الأزمة الجزائرية. هذه الأحداث سرعت من وصول الجنرال ديغول إلى السلطة، الذي أعلن لاحقًا عن تأسيس الجمهورية الخامسة.
إرث ساقية سيدي يوسف
لا تزال ساقية سيدي يوسف رمزًا للتضامن العربي والإفريقي في مواجهة الاستعمار. النصب التذكاري في القرية يحمل عبارة: “تلك الفواجع التي اغتالتها سعيدة القريبة الحمراء، أضحت من قرى الخضراء شهيدة لكنها الساقية الكاملة الباقية”. هذه الكلمات تذكرنا بأن الدماء التي سالت في ساقية سيدي يوسف كانت بداية لانتصار جديد، تمثل في استقلال الجزائر عام 1962 والجلاء التام للقوات الفرنسية من تونس في 15 أكتوبر 1963.
في الذكرى الـ67 لهذه الأحداث، نستذكر شهداء ساقية سيدي يوسف، ونؤكد على أهمية الحفاظ على ذاكرة النضال التحرري كي تبقى مصدر إلهام للأجيال القادمة في مواجهة التحديات والظلم.
Hope&ChaDia