بقلم د. جمال لعبيدي و د. أحمد رضوان شرف الدين
يقع أحيانا استعمال كلمة ” الخيانة ” في العالم العربي لوصف سلوك بعض القادة العرب تجاه النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. ” الشارع العربي “.
كما يقال، يعني الشعوب العربية، لا تتوقف عند التفاصيل وتقدر بأن أكثرية القادة العرب يخونون و” يبيعون أنفسهم للغرب “. بيد أن الأمور ليست بسيطة إلى هذا الحد.
صحيح أن قلة فقط من رؤساء الدول العربية يعلنون، في كل المناسبات والظروف، عن تأييدهم غير المشروط للقضية الفلسطينية وبالتالي يؤيدون حماس اليوم لأنها مع المقاومة في غزة تبلور بالفعل هذه القضية، فأصبحت تجسد خط الفصل بين صدق هذا التأييد ومجرد الخطاب الموسمي.
إن دولا عربية كثيرة تتخذ مواقف انتظارية أو تواجه مشاكل لا حصر لها ناتجة، في أحيان كثيرة، عن الضغوط والتدخلات الأجنبية بصفة مباشرة أو غير مباشرة.
هذا الوضع ينعكس على الجامعة العربية الواقعة، في الوقت الحالي، تحت سيطرة أقلية من الدول العربية (6 من 22 عضوا) كلها تقريبا ذات نظام ملكي ومناصرة ل” اتفاقات أبراهام ” وما يسمى ” تطبيع ” العلاقات مع إسرائيل.
كما ينعكس ذلك الوضع أيضا على الرأي العام العربي مؤديا إلى تفشي الشعور بالخيانة، على الخصوص، لاسيما وأن القادة الإسرائيليين أنفسهم يعملون على تغذيته وتعزيزه. فعلى سبيل المثال، لم يتردد هؤلاء عن الكشف بأن ملكين عربيين،
هما ملك المغرب المرحوم حسن الثاني،(1) بالنسبة لحرب الأيام الستة في 1967، وملك الأردن، المرحوم حسين،(2) بالنسبة لحرب أكتوبر 1973، قدما لهم معلومات معينة: أهي خديعة أم حقيقة؟
مهما يكن من هذا الأمر، من غير المستبعد أن تحدث الخيانة المباشرة والفظة والكل يتذكر بأن القذافي كان قد وجه هذا النوع من التهم لبعض القادة العرب (3) واصفا إياهم بالعملاء للولايات المتحدة الأمريكية، فدفع حياته ثمنا لذلك.
” التطبيع “
ومع ذلك الأمر ليس بسيطا إلى الحد الذي يبدو عليه للوهلة الأولى واللجوء إلى كلمة ” الخيانة ” وحدها لا يكفي ويستدعي الذهاب أبعد.
في حال البلدان العربية، يكتسي نفوذ إسرائيل وبصورة أعم النفوذ الغربي، أشكال وإغراءات ” تطبيع ” العلاقات مع إسرائيل. إن كلمة ” التطبيع ” هنا غريبة بعض الشيء
إذ تعني ضمنيا أن هذه العلاقات لم تكن ” طبيعية ” في السابق، وبالتالي ينبغي أن تصبح كغيرها من العلاقات القائمة بين البلدان والدول. لكن الانطلاق من وجهة النظر هذه يؤدي بصاحبه حتما إلى وضع القضية الفلسطينية جانبا، بما أن إسرائيل ليست بلادا ” طبيعية ” كونها تحتل فلسطين تحديدا.
وكان من المفروض إذن حل هذه المشكلة قبل الحديث عن التطبيع، وهو ما لم يرد فيما سمي اتفاقات ” التطبيع ” الأخيرة، أي “اتفاقات أبراهام ” المبرمة بين بعض الدول العربية الخليجية وإسرائيل في 2020، والتي أعقبها، في نفس العام، ” تطبيع ” المغرب والسودان لعلاقاتهما الدبلوماسية مع إسرائيل.
وقد سميت تلك الاتفاقات على اسم أبراهام لإعطائها شرعية دينية مفادها بأن ” الشعوب العربية والشعب اليهودي ينحدرون من جد مشترك هو أبراهام ” (ديباجة الاتفاقات).
ومن المعلوم أن المملكة العربية السعودية أبدت اهتماما واضحا بهذه الاتفاقات قبل اندلاع حرب غزة الحالية، وهذا دون أن ننسى أن أولى اتفاقات ” التطبيع ” أبرمت مع مصر في 1979 ثم مع الأردن في 1994.
في جميع هذه الحالات لم تكن القضية الفلسطينية محرك الاتفاقات المبرمة، بل تحولت بفعل هذه الاتفاقات إلى مسألة ثانوية بما أنها لم تحظ بأسبقية الحل. بتعبير آخر لم تكن القضية الفلسطينية الدافع المحرك لأنصار ” تطبيع ” العلاقات مع إسرائيل. ومع أن أحداث غزة،
لاسيما منها حملات القمع الإسرائيلي الفظيع، أرغمت الدول العربية التي تدعم ” التطبيع ” على التزام درجة أكبر من التحفظ إزاء إسرائيل، إلا أنه من الممكن أن نضيف، دون خشية الوقوع في خطأ كبير، بأن تلك الحملات كان من أهدافها الجوهرية إزاحة العقبة، المتمثلة في حماس،
من الطريق المؤدي إلى توسيع إستراتيجية ” اتفاقات أبراهام “. هذا العنصر من شأنه أن يساعدنا على فهم أفضل لسلبية الدول المشاركة في هذه الاتفاقات وبصورة أعم فيما يسمى سياسة ” التطبيع “.
من جهة أخرى، إن عناد إسرائيل والولايات المتحدة وإصرارهما على مواصلة العدوان على غزة، رغم معارضة الرأي العام في كل مكان والشعور بفظاعة الجريمة في العالم بأسره، قد يجد تفسيره في وجود رؤية إستراتيجية بعيدة المدى تهدف إلى تخليص المنطقة من العائق الفلسطيني بصورة نهائية.
لا توجد حقيقة إلا مخفية. وإذا كانت كلمة الخيانة غير كافية لتفسير التقاء بعض الدول العربية مع إسرائيل، فما هي أسبابه إذن ؟.
الأسباب المقدمة من قبل الدول المعنية و نخبها القائدة هي أسباب اقتصادية وتجارية: يستند خطاب ” التطبيع ” إلى توقع بأن دمج إسرائيل في المنطقة سوف يأتي بالخير ” بفضل تكنولوجيتها وفعاليتها وشبكاتها المالية العالمية “،
كما يستند أيضا إلى حجج أمنية ودفاعية (حال المغرب والإمارات العربية مثلا)، فضلا عن ارتكاز هذه الحجج على رؤية تغريبية ضمنية لنقل الحداثة الغربية بواسطة إسرائيل.
تلك هي الحجج الرئيسية ل” تطبيع ” العلاقات مع إسرائيل بغية إشراكها في حياة الشرق الأدنى بصفة كاملة وتنمية نفوذها ونفوذ الولايات المتحدة أيضا في المنطقة. لقد أعلن الموقعون على ” اتفاقات أبراهام ” صراحة بأنه ” تبعا لاتفاقات أبراهام، تبدي الأطراف استعدادها للالتحاق بالولايات المتحدة من أجل تطوير وإطلاق أجندة إستراتيجية في الشرق الأوسط ” (البند 7).
النسخة العربية من الصهيونية المشفرة (4)
وراء الحجج الاقتصادية والأمنية هناك كالعادة أيديولوجيا ما. فكما كان الإنسان الخاضع للاستعمار يبالغ في تقدير قوة الاستعمار، راح بعض القادة العرب يبالغون في تقدير قوة إسرائيل. يوجد لدى هؤلاء ولدي النخب المرتبطة بهم قناعة راسخة في قرارة أنفسهم بأن الصهيونية قوة عظمى.
هذه الفكرة التي تشكل جوهر الايديولوجيا الصهيونية بالذات تفسر غطرسة إسرائيل المتواصلة إزاء الاحتجاجات العالمية ولاسيما إزاء القانون الدولي.
وبالإمكان أن نلاحظ بهذا الشأن وجود تقارب عجيب بين إيديولوجيا أولئك القادة العرب وإيديولوجيا الصهيونية المشفرة، بمعنى ايديولوجيا أولئك الذين يدعمون إسرائيل، وفي نفس الوقت، يرفضون بشدة وصفهم بالصهاينة.
بل يمكن الحديث عن وجود نسخة عربية للصهيونية المشفرة. مثلا نعثر لدى القادة العرب المعنيين على نفس الرواية التي تروج لها الصهيونية المشفرة حول النزاع الحالي والتي تفيد بأن حماس مسئولة عن جميع مآسي الفلسطينيين وبخاصة في غزة.
لقد أدت انتصارات إسرائيل أدت دورا معينا في بروز المبالغة بشأن قوة الصهيونية لدى قادة ذوي الوطنية المهزوزة أو القادة الإقطاعيين ببساطة،
والذين يميلون باستمرار إلى إخضاع المصلحة الوطنية لصالح دوام عرشهم أو سلطتهم كما هو الحال في كل نظام إقطاعي. إن تغليب مصالحهم الضيقة هو الذي يفسر استمرار موقفهم من ” تطبيع ” العلاقات مع إسرائيل رغم الإخفاقات،
كما في حال مصر والأردن، وكما في حال المغرب مؤخرا، في انتظار ما سوف تسفر عنه حصيلة الإمارات العربية المتحدة وبلدان الخليج الأخرى في هذا الميدان.
من يوغرطة إلى القذافي
إن السيطرة على أمة أو على جماعة بشرية مهما كانت غير ممكنة من دون توفر وكلاء بين صفوفها. هذه القاعدة، الثابتة منذ أقدم العصور وحتى الآن،
كانت بمثابة القاعدة الذهبية لمصر الفرعونية و للإمبراطورية الرومانية، الشيء الذي يفسر طول عهدهما. لقد دأبت مصر الفرعونية على تطبيقها طيلة خمسة آلاف سنة متجلية على الخصوص في سهر الفراعنة على تربية أمراء البلدان والقبائل الخاضعة لهم قبل إرسالهم إلى مواطنهم الأصلية وهم متأكدون من نفوذهم الإيديولوجي والحضاري عليهم،
وبالتالي من وفائهم لهم. وكان قادة روما من جهتهم يمنحون لقب ” صديق روما ” لكل أمير يخدمهم ويساعدهم على الخصوص على فرض سيطرتهم على شعبه بالذات. بل كانوا يرون أن انتصارهم في حرب ما لا يكتمل إلا بعد أن يسلم لهم الخصم زعماءه،
كما لا يرتاح لهم بال سوى عندما يتأكدون من أن الأمة المستهدفة فقدت روحها وخار عزمها على المقاومة. هكذا تم تسليم يوغرطة النوميدي من طرف نسيبه بوكيس، النوميدي مثله، مقابل حصوله على الجزء الغربي من نوميديا وعلى لقب ” صديق روما “.
وبالأمس فقط سقط ميلوشفيتش وصدام والقذافي ضحايا الإمبراطورية الأمريكية بنفس أساليب السيطرة في أحدث عملية تناسخ للإمبراطورية الرومانية.
هذه واحدة من السمات التي تشترك فيها سيطرة إسرائيل فتجعلها قاسية لأبعد الحدود، بلا رحمة، خليطا من المذابح والإذلال ومحاولات الإغراء باتجاه بعض القيادات والنخب العربية.
البيضة والدجاجة
يترتب على ما سبق نقاش حول مسار صعود البلدان العربية يشبه النقاش حول البيضة والدجاجة: هل الأولوية للديمقراطية قبل كل شيء، مثلما كان يقول المشاركون في ” الربيع العربي “،
بمعنى أن يكون القادة ممثلين حقيقيين لشعوبهم ولتطلعاتهم، وأن يتمتعوا هكذا بالقدرة على مقاومة التدخلات الأجنبية، أم الأولوية للوطنية والقومية قبل كل شيء، لتحرير الأمة من السيطرة الأجنبية.
كون هذه السيطرة هي المصدر الرئيسي للعقبات التي تعترض سبيل الديمقراطية الوطنية عبر مختلف قنوات التدخل، من ألطفها (التدخل الثقافي والاقتصادي وغيره) إلى أكثرها فظاظة (التدخل المسلح).هذا النقاش جار الآن في إفريقيا أيضا.
هذان الرأيان حاضران باستمرار كموضوع للنقاش والسجال. ولا شك أن هذه المسألة تعد من المسائل المفتوحة على الدوام والمطروحة باستمرار للنقاش،
ولكنها ليست نظرية بقدر ما هي عملية، وحلها مرهون على الأغلب بالفرص التاريخية: هنا ثورة وطنية من أعلى، كما هو الحال الآن في إفريقيا، بهدف التحرر من الوصاية الأجنبية ومن الروابط الاستعمارية الجديدة، وهناك ثورة ديمقراطية من أسفل على غرار محاولات ” الربيع العربي “، علما أن التقاء الثورتين ممكن الحدوث في وقت معين.
غير أن ما يحدث الآن في إطار إعادة النظر في النظام الدولي القديم، مثل إقامة مجموعة بريكس على الصعيد الاقتصادي وتولي الصين وروسيا قيادة مسار عالمي على الأصعدة السياسية والدبلوماسية والعسكرية،
يبدو كفيلا بتوفير فرص تاريخية مناسبة أكثر بكثير من السابق ومن زوايا مختلفة كذلك لهذه المسألة المطروحة للمعالجة منذ القرن الماضي والتي تتعلق بانبثاق سيادة ومساواة حقيقيتين لكافة الأمم.
يتضح في نهاية المطاف بأن مسألة ” الخيانة ” في الصفوف العربية متشعبة أكثر مما تبدو عليه للوهلة الأولى.إن الشعور بالخيانة يعبر عن رؤية ذاتية لمسألة موضوعية في الواقع، هي مسألة تحرر العالم العربي من السيطرة الأجنبية، سيطرة تزداد تعقيدا واحتجابا لأنها تتوارى أكثر فأكثر.
ويؤدي طرح هذه المسألة إلى بروز نظرتين وطريقين، طريق ” تغريبي ” عبر ” اتفاقات أبراهام ” المهزوزة وعبر الحفاظ على نفوذ وسيطرة الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة، وطريق تحرير فلسطين. وإذا كانت قضية فلسطين حيوية لهذا الحد مثلما تشعر بذلك الشعوب العربية، فلأنها تشكل بؤرة التجمع لتناقضات العالم العربي وتطالب بتسويتها.
فهي تدعو بلا هوادة إلى الوحدة العربية وتبين، في نفس الوقت، نقاط الضعف والتناقضات. فلسطين هي المحرك التاريخي للعالم العربي، بمعنى أنها ” تحرك العالم العربي ” فوق الدول والحكومات العربية، تسائله، تعيد فيه النظر، تجدد طاقته القومية باستمرار.
لقد أثبت مسار الحل ” التغريبي ” للقضية الفلسطينية، على النحو الذي يتدرج عليه بقيادة الولايات المتحدة على مدى عقود وحتى الآن أنه مأزق تاريخي. إن حجة ” تطبيع ” العلاقات مع إسرائيل والعقد المبرم في إطار ” اتفاقات أبراهام ” أخذا معناهما الحقيقي والكامل عبر استشهاد الشعب الفلسطيني في إطار المحاولة الراهنة لفرض ” الحل النهائي “، محاولة التطهير العرقي، أي حل القضية الفلسطينية بالقضاء عليها.
في المقابل تثير البطولة العنيدة عبر الكفاح المتواصل لفلسطين من أجل بقائها إعجاب العالم بأسره, العالم كله يعترف بفلسطين.
بقي على قادة الولايات المتحدة والغرب عموما الاعتراف بفلسطين بدورهم، بلا مهرب. لم تستطع أية حملة قمع أن تقضي على مقاومة الشعب الفلسطيني طيلة 75 عاما ولن تستطيع أبدا تحقيق ذلك. ألم يحن وقت إدراك هذه الحقيقة بالنسبة لأولئك القادة الغرب؟
________________________
(2)- https://www.jeuneafrique.com/130354/archives-thematique/il-faut-faire-la-guerre-aux-pr-jug-s/
(3) – https://www.facebook.com/watch/?v=2308459212811646
(4)-“الصهيوني المشفر” ليس صهيونيًا. يرفض بشدة وصفه بالصهيوني. لكنه يقترب منها من خلال مواقفه السياسية والأيديولوجية. إنه مثل العملة المشفرة التي ليست نقود ولكنها تؤدي وظائف النقود
aljazairalyoum.dz