قراءة في قصيدة “في القدس” للشاعر تميم البرغوثي
أخذني الشاعر تميم البرغوثي في قصيدته “في القدس” في رحلة في سيارة أجرة عمومية. ولكن الرحلة لم تستمر، فقد ردّنا حاجز المحتلين عن دخول القدس. كأن الشاعر لم يكن يدري أنه ممنوع علينا زيارتها، أو أنه تعمّد تكرار المحاولة حتى وإن كانت النتيجة الضمنية هي الصد.
قصيدة تتذبذب بالمتلقي صعودا هبوطا كما رسْمُ نبضات القلب، في مشاهد لا يمكن لك الهروب منها قبل أن تنتهي. إحساس صادق عذب، لا تكلّف. بساطة تلقي بالكلمات في قلبك، وسوف يزيد وقعها على المتلقي إذ تسنى له سماعها بصوت الشاعر.
يبدأ الشاعر بوضع المرء في الحالة المنطقية من السكون العاطفي، ما قبل التحرك الانجذابي، حيث أنه لا يأبه لكونه ممنوعا من دخولها، وكأنه يريد أن يقول: “عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم”. ولكن هذه حال العاشق المكابر الذي يدعي مقاومته الصلبة للميل والانجذاب، فإذا به ينظرها خلسة، فما تعود عينه ترى غيرها وإن نظرت. وكأن البصر صار محتكرا عليها. إذ التصقت صورة القدس ببؤرة العين، بعد أن تجاوزت كل الحواجز. فلا مناص من أن تتخلص العين من هذا المشهد.
مررْنا علــى دار الحبيب فردّنا
عن الدار قانونُ الأعادي وسورُها
فقُلْتُ لنفســي رُبما هي نعْمة
فماذا ترى في القدس حين تزُورُها
ترى كُلّ ما لا تستطيعُ احتمالهُ
إذا ما بدتْ من جانب الدّرْب دورُها
وما كلُّ نفس حين تلْقى حبيبها
تُـسرُّ، ولا كُلُّ الغـياب يُضيرُها
فإن سـرّها قبل الفراق لقاؤُه
فليس بمأمـون عليها سـرُورُها
متى تُبْصر القدس العتيقة مرّة
فسوف تراها العيْنُ حيْثُ تُديرُها
يتنقل الشاعر بعبقرية بين التناقض الداخلي في الأفكار الإنسانية. تراه بين اللحظة والأخرى يدرك طريق منطقه في واقعه. وبعين الواقع يستعرض لنا الشاعر واقع المدينة وما آلت إليه، مستخدما مقارنات ذكية، فيرينا تميم تركيبة مجتمعية عجيبة، غير متجانسة، لا تشترك إلا في المكان بغير وجه حق. فيها التجار الوافدون من جورجيا، تشغلهم أمور حياتية وتفاصيل يومية تكاد تكون محور تركيزهم. ترى الغرباء يحكمون المدينة، يغلقون الشوارع أو يفتحونها. وإذا نقّلت النظر أكثر، فسترى المستوطنين منهم يحملون السلاح، حتى من هم دون السن القانوني في دولة تدّعي احترام القانون. وترى أفواجا من السياح الذين قصدوا المدينة في قضاء إجازة، بلغت بهم السطحية أنّ أكثر ما يلفت انتباههم في هذه المدينة العظيمة بائعات الفجل اللواتي يقضين نهارهن في الساحات جلبا للقمة يعدن بها لأطفالهن ساعة الليل، بعد أن يكون النوم قد سرقهم من جوعهم.
في القدس، بائعُ خضرة من جورجيا برم بزوجته
يفكرُ في قضاء إجازة أو في طلاء البيتْ
في القدس، توراة وكهل جاء من منْهاتن العُليا يُفقّهُ فتية البُولُون في أحكامها
في القدس شرطي من الأحباش يُغْلقُ شارعا في السوق،
رشّاش على مستوطن لم يبلغ العشرين،
قُبّعة تُحيّي حائط المبكى
وسياح من الإفرنج شُقْر لا يروْن القدس إطلاقا
تراهُم يأخذون لبعضهم صُورا
مع امْرأة تبيعُ الفجْل في الساحات طُول اليومْ
كل تلك شواهد على واقع بارد عديم الإحساس بحال المدينة وأهلها. محتلوها قوم عرفوا بعنجهية فاقت الوصف، فيصورها الشاعر فيهم بأنهم اغتصبوا المدينة منتعلين أعالي الغيوم، مختالين بعدتهم وعتادهم. كما يشير الشاعر أيضا إلى السياسة الاستعمارية في إقامة مستوطناتهم، إذ أنهم يختارون دائما أعلى المواقع على سفوح الجبال، لضمان سيطرتهم الدائمة، واحتمائهم مما يتوجّسون من أخطار. ولكنه يفيض بالأمل فجأة:
في القدس دبّ الجندُ مُنْتعلين فوق الغيمْ
في القدس صلّينا على الأسْفلْتْ
في القدس من في القدس إلا أنْتْ؟
بعد شحذة الأمل الخاطفة، ترى التاريخ يقوم له معارضا، وكأنه يخاف عليه من الغرق في الأمل إلى حدود الوهم، ليقول له:
وتلفّت التاريخُ لي مُتبسّما
أظننْت حقا أنّ عينك سوف تخطئهم، وتبصرُ غيرهم؟
ها هُم أمامك، متْنُ نصّ أنت حاشية عليه وهامش
أحسبت أنّ زيارة ستُزيحُ عن وجه المدينة يا بُنيّ
حجاب واقعها السميك لكي ترى فيها هواكْ؟
في القدس كلّ فتى سواكْ
كلمات موجعة، لا تطيقها نفس الفلسطيني. حال من الضعف الذي لم تتعوده كرامة الفلسطيني وشموخه، لتعلو فيه صرخة، يردّ بها كل ما رسمه الواقع ووثقته أنامل التاريخ. فالفلسطيني يعرف القدس قبل ميلاده، قبل أن يلازمها التاريخ منذ وجودها. ويأتي تميم بتعريف جديد للزمن، هو أقرب إلى دحض الظلم الواقع وإثبات حتمية زواله. فالزمن في ظاهره مؤشر إيجابي لتمكنهم، فقد صارت لهم دولة يصعب على العقل التوصل إلى نتيجة منطقية مخالفة لاستمرار وجودهم. وأما حقيقة الأمر كما يمنطقها الشاعر، فهي أن الزمن الباطن الذي يعد وحداته في هدوء الخفي، ينتهي بزوالهم لا محالة عن أرض المقدسات. وفي تأكيد على فكرة العلاقة الغريبة المقدسة ما بين القدس والسماء، يرى الشاعر أن الهلال في القدس غير الهلال الذي تراه في سماء المدن الأخرى، فالقباب المتزايدة يوما بعد يوم فيها ما هي إلا استمرار لوجوده.
يا كاتب التاريخ مهْلا، فالمدينةُ دهرُها دهران
دهر مطمئن لا يغيرُ خطوه وكأنّه يمشي خلال النومْ
وهناك دهر، كامن متلثم يمشي بلا صوت حذار القومْ
والقدس تعرف نفسها،
اسأل هناك الخلق يدلك الجميعُ
فكلُّ شيء في المدينة
ذو لسان، حين تسألُهُ، يُبينْ
في القدس يزدادُ الهلالُ تقوسا مثل الجنينْ
حدْبا على أشباهه فوق القباب
تطوّرتْ ما بيْنهم عبْر السنين علاقةُ الأب بالبنينْ
ومن هنا، وبهذا النفس المشتعل أملا، يسلط الشاعر كاميرا المترصد الحذق، ليصور لنا كل ما هو حي من تفاصيل تراها من خلاله من دون أن تراها. إذ يبدأ بتعريف الجمال، وكأن القدس قاموس البشرية في استلهام مفرداته، حيث يبدأ بقبة الصخرة، ويحصر مفهوم الجمال فيها، كما يربطها بالسماء جاعلا العلاقة سامية مقدسة، فالسماء تنعكس على القبة ثم تذوب في جزئياتها لتتفرق في الناس يوم التفافهم حولها يوم الجمعة. في صورة ولا أحلى لدعم سماوي ليس من صنع بشر. تتطور هذه العلاقة إلى أرقى المستويات التي تجعلهم يحملونها على أكتافهم إذا ما استلزم الأمر في أيام الشدة.
في القدس أبنية حجارتُها اقتباسات من الإنجيل والقرآنْ
في القدس تعريفُ الجمال مُثمّنُ الأضلاع أزرقُ،
فوْقهُ، يا دام عزُّك، قُبّة ذهبيّة،
تبدو برأيي، مثل مرآة محدبة ترى وجه السماء مُلخّصا فيها
تُدلّلُها وتُدْنيها
تُوزّعُها كأكْياس المعُونة في الحصار لمستحقّيها
إذا ما أُمّة من بعد خُطْبة جُمْعة مدّتْ بأيْديها
وفي القدس السماءُ تفرّقتْ في الناس تحمينا ونحميها
ونحملُها على أكتافنا حمْلا إذا جارت على أقمارها الأزمانْ
وفي مشهد يفوح أصالة، يصور لنا تميم أعمدة لها تاريخ، قد نقش عليها بالأسود كما دخان سابح على أسطحها الملساء، يطاولها ولا يرضى الانفصال عنها بأي حال. وأما النوافذ فقد خطت معادلة الضوء والظل، إذ رسم لنا الشاعر مشهدا للضوء المنسل من نوافذ المساجد والكنائس ليلعب لعبة الظلال المترامية على الأسطح المزخرفة الملونة، ليغير لك صورة الصبح في الخارج، وكأنها قد قُسّمت الأدوار. مشهد يومي بسيط، إلا أن الشاعر وببراعة قد خصّ بها نوافذ المعابد ليرقى بقدسيتها.
في القدس أعمدةُ الرُّخام الداكناتُ
كأنّ تعريق الرُّخام دخانْ
ونوافذ تعلو المساجد والكنائس،
أمْسكتْ بيد الصُّباح تُريه كيف النقشُ بالألوان،
وهْو يقول: “لا بل هكذا”،
فتقُولُ: “لا بل هكذا”،
حتى إذا طال الخلافُ تقاسما
فالصبحُ حُرّ خارج العتبات لكنْ
إن أراد دخولها
فعليه أن يرْضى بحُكْم نوافذ الرّحمنْ
وتتجلى قدرة الشاعر ليس فقط في مضمون ما يقول، ولكنّ سردا لتاريخ طال عشرات السنين لا يكلفه أكثر من سطرين شعريين يعدّ فعلا إبداعا لا شك فيه. وكأن تميم يريد أن يقول لنا: “أسمعتم قصة الظاهر بيبرس؟ ذلك المملوك في سوق النخاسة، والذي صار بعد حين بطلا كسر المغول وجاوز السلاطين؟ عظمة لا ينساها التاريخ، لقد بدأ من القدس”. وكأن له رسالة خفية يدسها بين السطور بذكاء الساحر، مفادها أن لا تستهينوا بضعف ظاهري لأصحاب الحق في القدس، فمن غلب المغول لن يستعصي عليه استرداد القدس من محتليها.
في القدس مدرسة لمملوك أتى مما وراء النهر
باعوهُ بسوق نخاسة في أصفهان
لتاجر من أهل بغداد أتى حلبا فخاف أميرُها من زُرْقة في عيْنه اليُسْرى،
فأعطاهُ لقافلة أتت مصر، فأصبح بعد بضع سنين غلاّب المغول وصاحب السلطانْ
وفي منطق خلاق عجيب يكون للرائحة لغة. مزج جميل للحواسّ. رائحة تلخص آلاف الكيلومترات من الأراضي الشاسعة في الهند وبابل، قد اختزلها تميم في دكان عطار عجوز في زاوية لا تكاد ترى في خان الزيت. رائحة مرابطة لا تأبه بكل ما يحاولون لإجبارها على الرحيل، تأخذه على الصبر والصمود. فتفوح من بعد انغماس الجو بغازاتهم السامة.
تستوقفني عبارة في كل مرة أمرّ بها على القصيدة: “في القدس يرتاح التناقض.” ومنذ متى كان التناقض هادئا مرتاحا؟! بلى، إنه يقدم لنا مكانا جديدا بتعريفاته “في القدس.” في دلالة راقية لفكرة السلام الإلهية وليس بمفهومه البشري المتناقض، فالقدس هي المكان الوحيد الذي تتعايش فيه المتناقضات على مرّ العصور رغم محدودية مساحتها المكانية.
أرض العجائب هي القدس، فالعجائب فيها قد اعتادها الناس، يمرون عليها دون اندهاش، وكأنهم يتفحصون قطع قماش في متجر لانتقاء ما هو مناسب. وكم كان الشاعر عظيما حين جعل قدسية هذه المدينة تفوق كل بقاع الأرض، وفي القدس، ومن حيث لا تدري، تجد كفيك منقوشتين شعرا إن لمست حجرا أو صافحت كهلا فيها.
في القدس رائحة تُلخّصُ بابلا والهند في دكان عطار بخان الزيتْ
والله رائحة لها لغة ستفْهمُها إذا أصْغيتْ
وتقولُ لي إذ يطلقون قنابل الغاز المسيّل للدموع عليّ: “لا تحفل بهم”
وتفوحُ من بعد انحسار الغاز، وهْي تقولُ لي: “أرأيتْ؟”
في القدس يرتاحُ التناقضُ، والعجائبُ ليس ينكرُها العبادُ،
كأنها قطعُ القماش يُقلّبُون قديمها وجديدها،
والمعجزاتُ هناك تُلْمسُ باليديْنْ
في القدس لو صافحت شيخا أو لمست بناية
لوجدْت منقوشا على كفّيك نصّ قصيدة
يا بْن الكرام أو اثْنتيْنْ
لربما كانت نشرات الأخبار التلفزيونية تنقل مشاهد الدم والقتل والحروب، إلا أن الكاميرات تغفل عن تصوير لحن البراءة والطفولة الذي يترنم به تميم ويحسه، وقد جعلنا نحسه من خلاله. فالحمام يعلو على غطرسة المعتدين معلنا بكل شجاعة دولة الحق في سماء القدس العذبة النقية من قذارة الأعداء ، متجاهلا ما حوله من رصاص قاتل.
في القدس، رغم تتابع النّكبات، ريحُ براءة في الجوّ، ريحُ طُفُولة،
فترى الحمام يطيرُ يُعلنُ دوْلة في الريح بيْن رصاصتيْنْ
ثم يحملنا تميم على جناحيه ليحلّق بنا في سماء القدس، لنقرأ بعينه تاريخها المسطور بقبور الأمم الغابرة، التي مرت على المدينة من كل أنحاء الدنيا. فمن من أهل الأرض لم يمر هنا، على اختلاف الأصول والملل؟ وفي استفهام تهكميّ وراءه ما وراءه من حزن مستتر، نراه يتساءل هل استثنانا كاتب التاريخ أو حتى نسي وجودنا؟ وفي نبرة يشوبها حزن المظلوم، ولوعة المحروم، يطلب تميم من التاريخ أن يعيد النظر مرة أخرى عساه يجد لنا مكانا في كتابه.
في القدس تنتظمُ القبورُ، كأنهنّ سطورُ تاريخ المدينة والكتابُ ترابُها
الكل مرُّوا من هُنا
فالقدسُ تقبلُ من أتاها كافرا أو مؤمنا
أُمرر بها واقرأ شواهدها بكلّ لغات أهل الأرض
فيها الزنجُ والإفرنجُ والقفْجاقُ والصّقْلابُ والبُشْناقُ
والتاتارُ والأتراكُ، أهلُ الله والهلاك، والفقراءُ والملاك، والفجارُ والنساكُ،
فيها كلُّ من وطئ الثّرى
أرأيتها ضاقت علينا وحدنا
يا كاتب التاريخ ماذا جدّ فاستثنيتنا
يا شيخُ فلتُعد الكتابة والقراءة مرة أخرى، أراك لحنْتْ
ويعود تميم من عصور عاشها في ثوان ، وفي السيارة التي قضى سائقها بانتهاء الرحلة منحرفا بسيارته شمالا جرّاء منعه من دخول القدس، يلتفت الشاعر إلى مرآة السيارة إلى يمينه، ليرى فيها القدس خلفه، فتنهمر منه الدموع حزنا ليس على وداعها فحسب، وتاركا كل الحقيقة خلفه. ولكنه يرى ابتسامة شقية تغافله لتتسلل بين دموعه، إذ شخصته القدس قائلة:
العين تُغْمضُ، ثمّ تنظُرُ، سائقُ السيارة الصفراء، مال بنا شمالا نائيا عن بابها
والقدس صارت خلفنا
والعينُ تبصرُها بمرآة اليمين،
تغيّرتْ ألوانُها في الشمس، منْ قبل الغيابْ
إذ فاجأتْني بسمة لم أدْر كيف تسلّلتْ للوجْه
قالت لي وقد أمْعنْتُ ما أمْعنْتْ
يا أيها الباكي وراء السور، أحمقُ أنْتْ؟
أجُننْتْ؟
لا تبك عينُك أيها المنسيُّ من متن الكتابْ
لا تبك عينُك أيها العربيُّ واعلمْ أنّهُ
في القدس من في القدس لكنْ
لا أرى في القدس إلا أنْت
2 comments
يعطيك الصحة أخي رضا، بلاغة في عشق الديار، الحق و حياة الفس.
نترقب الدفاع و إسترجاع الحق لأهله
نعم خويا سفيان ، تميم البرغوثي قامة في ميدانه : بلاغة و احساس مرهف و ..
و ان شاء الله نشهد انا و انت باذنه سبحانه استرجاع قددسنا ثالث الحرمين و أولى القبلتين
مشكور على التعليق اخي سفيان