قبر الرومية… هو معلم حضارة وحب، وقصة عشق أزلي لقصة حب ليس كباقي القصص ونهاية ليست ككل النهايات.. ارتبط بناء القصر، حسب القصة التي تواترت على الألسن وهي قصة الحب التي نشأت بين الملك يوبا وابنة حاكمة مصر كليوباترا سيليني.. والقصر في أعلى جبل وسط مدينة سيدي راشد بمحافظة تيبازة، فيما يبلغ ارتفاعه 261 مترًا ويطل على البحر ويشرف أيضًا على سهول منطقة “متيجة”، أغنى الأراضي الزراعية في الجزائر، وهو ما جعله يحتل موقعًا استراتيجيًا ويبقى تحفة معمارية أصبحت على مرور الزمن قبلة للسواح من كل حدب وصوب.
يتربع قصر الرومية على عرش المعالم الأثرية الجزائرية لضخامته، حيث يتمكن أي شخص من رؤيته وهو قادم من العاصمة، فهو يجذب الناظر على امتداد 20 كيلومترًا في الطريق من غرب العاصمة نحو ولاية تيبازة، حيث تتراءى للزائر قبة حجرية بنية اللون ثم تتوضح الصورة عن قرب لهرم بشكل دائري أو ما يشبه الاسطوانة.
كما يعد القصر علامة البحارة والصيادين غرب سواحل الجزائر ليهتدوا به أثناء رحلاتهم في البحر، كما أنه علامة مميزة لكل المناطق المجاورة لمحافظة تيبازة الأثرية.
تساؤلات مطروحة على مرِ الزمن
رغم مرور قرون طويلة على تشييده، ظل هذا المعلم التاريخي، بحسب المؤرخين، يطرح العديد من الأسئلة عن تركيبته وبنائه وأسراره التي يحتفظ بها على مر القرون، التسمية مثيرة، حيث ذكر المختصون في التاريخ أن “المعلم حمل العديد من التسميات من بينها قصر الرومية أو البيزنطية وقصر ملكة موريتانيا القديمة والضريح الملكي الموريتاني وكذلك هناك من أطلق عليه تسمية مقبرة أو قبر الرومية”.
ويوضح المختصون أن “البناء قطر دائرته 64 مترًا وقاعدته مربعة طول ضلعها 64 مترًا وتزين المبنى بـ60 عمودًا بتيجان إيوانية وفي الجدار الخارجي يرى الزائر صفائح حجرية عملاقة منقوشة تبدو وأنها أبواب طولها سبعة أمتار ولكنها أبواب وهمية”. وينتهي المبنى، بحسب المختصين، “بشكل مخروطي مدرج يتعدى ارتفاعه 41 مترًا بحسب الدراسات التاريخية”.
ومن عجائب هذا الضريح أن لونه يتغير حسب الفصول وحسب ساعات النهار أيضا، فتجده أحيانا يميل إلى الاصفرار، كما يأخذ اللون الرمادي، وتعلوه زرقة إذا أحاط به الضباب.
يُحاكي صفات الأهرام وينقل حضارة الأمازيغ
هذا القبر الذي يحمل الكثير من صفات الأهرام، هو معلم تاريخي يُحاكي عظمة الحضارة الأمازيغية التي بلغت ذروة عطائها في عهد يوبا الثاني أقوى الملوك والقادة العسكريين لإمبراطورية مورتانية “وهو الاسم القديم لمنطقة المغرب العربي بين 25 قبل الميلاد و23 ميلادية وكانت عاصمته “أيول” شرشال، كما عرفت حقبته الكثير من الازدهار والرخاء كونه كان ملكا مثقفا.
عبقرية نادرة في فن البناء المعماري
الزائر لهذا المعلم يجد نفسه قبالة قبة حجرية تتجلى من خلال تفاصيلها عبقرية نادرة في البناء والمعمار وتفنن في فسيفساء المداخل وأبواب الضريح والتي تحاكي الأزمان
والقرون الغابرة، فهو ذو شكل أسطواني يعلوه مخروط مدرج، تزينه دائرة بـ60 عمودا مميزا بتيجان إيوانية يحمل كل واحد منها إفريزا، ويتربع هذا الشكل الهندسي على قاعدة مربعة ضلعها 63.40 مترا، ويوجد أمام باب القبر آثار بناية يبلغ طولها 16 مترا وعرضها 6 أمتار، كانت معبدا سابقا.
عشقها فخلد ذكراها
الملك “يوبا الثاني” ملك الإمبراطورية الموريتانية، كان يعشق زوجته كليوباترا سيليني التي أنجبت له أميرا سماه “بطليموس” حتى الجنون، حيث حزن عليها بعد وفاتها حزنا شديدا لدرجة أنه قرر أن يخلد ذكراها بضريح بناه لها في منطقة سيدي راشد بولاية تيبازة يطلق عليه قبر الرومية “الضريح الموريتاني”.
هذا الضريح على شكل تحفة معمارية خالدة تحاكي أهرامات مصر، خاصة وأن قصة الحب هذه وقعت في الفترة الفرعونية التي كان فيها تحالف بين مملكة الفراعنة و المورتانيين بعد أن قام الملك شيشنق بالتدخل لحماية مصر من غزو جيش الحبشة بطلب من فرعون مصر، دامت فترة التحالف أكثر من ثلاثة قرون شهدت تزاوجا بين العائلتين الملكيتين، غير أن قصة كليوباترا سليني ويوبا الثاني كانت أكثر قصة حب قوية دوّنها التاريخ عبر صفحاته حتى تحولت إلى أسطورة يجسدها قبر الرومية.
صفائح ونقوش تبهر الزائرين
يشمل الضريح أربع صفائح حجرية، هي أبواب مرسومة بطريقة النقش على الحجر الذي كان منتشرا في ذلك العصر ويبلغ ارتفاعها6.90 أمتار، وتبرز بها نقوش يتراءى منها رسم يشبه الصليب، مما جعل بعض الباحثين في الآثار يعتقدون أنه مبنى مسيحي ومنه جاء اسم “قبر الرومية” المأخوذ من مفردة “الرومي” العربية أي البيزنطي أو الروماني. لكن كثيرا من علماء الآثار يؤكدون أن المبنى لا صلة له بالمسيحية كونه بني قبل الميلاد وقبل نزول المسيح عيسى عليه السلام.
عند اجتياز باب الضريح يتمكن الزائر من السير في رواق ضيق يجبره على الانحناء، ويمكن تمييز نقوش على الحائط الأيمن تمثل صورة أسد ولبؤة، وقد نسب الرواق إلى النقوش فسمي “بهو الأسود”، وبعد تجاوز هذا الرواق يجد الزائر نفسه في رواق ثان طوله 141 مترا وارتفاعه 2.40 مترين شكله ملتو، ويقود مباشرة إلى قلب المبنى الذي تبلغ مساحته 80 مترا مربعا. وأشيع سابقا أن الضريح يحوي كنوزا ولكن الباحثين لم يعثروا على أي كنز داخله.
واجهة تاريخية تجلب الزوار
قبر الرومية محمية أثرية عالمية تستحق الكثير من الاهتمام من السلطات باعتباره واجهة تاريخية تفخر بها الجزائر، تحكي حقبة زمنية شهدت ازدهار الحضارة الأمازيغية التي يحاول الكثير تفنيدها وإقصائها من التاريخ، فهو دليل يسكت الأصوات التي ترفض الاعتراف بالفترة اللوبية الفرعونية التي حكم فيها الأمازيغ أرض الفراعنة، كما أنه متنفس المواطنين في بلدية سيدي راشد لما يتمتع به من مسحة جمالية تشد الزوار إليه بل يبعث فيهم الكثير من الفضول لاكتشاف تاريخه وما يخفيه هذا القبر، غير أن الكثير من الأشخاص الذين لا يعرفون القيمة الانسانية والتاريخية للمكان حولوه إلى وكر لبعض الممارسات المخلة بالآداب، وفي غياب للسلطات عانى القبر من الإهمال لسنوات عدة جعلته يخسر الكثير من رونقه، مما استدعى السلطات المحلية إلى إغلاق بابه الداخلي ليبقى لوحة فنية نتمتع بجمالها الخارجي فقط، خاصة بعد تحذيرات اليونيسكو، اليوم الزائر للقبر غير مسموح له بدخول سراديبه واكتشاف خباياه وإشباع فضوله إلا بتصريح من بلدية سيدي راشد التي لا تمنحه إلا للسواح الأجانب أو جهات خاصة حفاظا على هذا القبر الذي يمثل الهوية الأمازيغية بامتياز.
معلم أثري صامد في وجه الطبيعة
يعرف الضريح المتربع على يسار الطريق المؤدي إلى سيدي راشد بتيبازة، قدوم المئات من العائلات التي تقصد المكان للترفيه عن النفس في أجواء طبيعية خلابة، اجتمع فيها منظر الجبل بالبحر وزادتها أشجار الكاليتوس والصنوبر، وكذا عطر شجيرات “الضرو” المتناثرة هنا وهناك سحرا خاصا، وعلى الجانب الأيمن للضريح توجد شجرة صنوبر كبيرة باسقة، التفت حولها بعض الصخور الهاربة من الضريح لتؤمّن مكانا رائعا للجلوس والاستمتاع بالهدوء والسكون، وغالبا ما تحضر العائلات معها الزرابي والأفرشة، وكذا الغذاء والقهوة وغيرها من المتطلبات، لقضاء يوم كامل في رحاب الغابة الشاسعة.
هذا المعلم الأثري محمي ضمن التراث العالمي وقد أكد خبراء اليونيسكو على ضرورة حماية هذه التحفة وترميم بعض الحجارة التي تعرضت للتفتت بسبب الظروف الطبيعية كونه قطبا سياحيا خلابا يجذب إليه السواح من كل المناطق طوال السنة.
حراسة أمنية لحماية المعلم
السلطات الجزائرية اتخذت تدابير وقائية من أجل حماية القبر من خلال وضع حراسة أمنية مشددة من طرف رجال الدرك الوطني للحفاظ على هذا المعلم والحيلولة دون تخريبه أو تحويله إلى وكر للدعارة، حيث أن الكثير من الشباب لا يمتثل للتعليمات المسجلة على لافتة كبيرة عند المدخل الرئيسي للضريح تمنع النحت على الحجارة وتمنع المشي على الأجزاء الخاصة بالضريح، وكذا تسلق الجدران وقلب الحجارة ونقلها من مكانها، فهم يحاولون تسلق الحجارة رغم الخطر المحدق بهم، وكذا نحت بعض الأشخاص لأسمائهم وتواريخ علاقاتهم العاطفية على الحجارة، وهو الأمر الذي يعتبر مساسا بالمعلم التاريخي، إلى جانب رمي الأوساخ في كل مكان، كما تقوم هذه القوات بحملات مداهمة فجائية في الغابة من وقت لآخر من أجل تطهير المكان من المشاهد المخلة بالحياء، لضمان الأمان والرفاهية للعائلات التي تجد في المكان متنفسا طبيعيا لها.
“قبر الرومية”.. قصة عشق فطرت قلب الملك فخلدها التاريخ – الموعد (elmaouid.dz)
