تتوالى السنون على تاريخ تفجير ثورة التحرير المجيدة، التي ولدت بعد مخاض عسير لتعلن عن فجر جديد للجزائر.
خطاه أبناؤها وبناتها بدمائهم، التي روت هذه الأرض الطبية لتنبت أزهار ربيع الاستقلال، الذي أعطى العالم درسا عظيما في حب الوطن والحرية، وأن ما اخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة
الذّكرى 69 لاندلاع ثورة نوفمبر الخالدة، قادتنا إلى السفر عبر الزمن لنعيش حقبة تاريخية تقشعر لها الأبدان، كيف لا ونحن نصل عتبات قرية “إيغيل إيمولا” بتيزي نتلاثة في منطقة واضية، بولاية تيزي وزو. هذه القرية الشاهدة على ميلاد بيان اول نوفمبر..دستور الثورة الجزائرية.
وصلنا الى قرية “إيغيل ايمولا” التاريخية، فاستقبلنا جمع من مشايخ القرية وشبابها، من أجل إرشادنا إلى المنزل الذي رقن فيه بيان اول نوفمبر ونسخ، لتفتح أقفال الأبواب من الخارج ونطل من نافذتها على الحدث التاريخي الذي احتضنته هذه الجدران، ونلتقي لأول مرة مع زعماء صنعوا التاريخ، نحس بوجودهم بمجرد دخولنا تلك المعالم، لتقول لنا: “لقد مروا من هنا” وأسماؤهم ما تزال خالدة..كيف لا وهم صناع ثورة نوفمبر.
الزائر لقرية “إيغيل إيمولا”، يفهم السر وراء اختيارها من طرف كريم بلقاسم، لكتابة ونسخ بيان اول نوفمبر، هذه الوثيقة التي غيرت مجرى التاريخ وزلزلت كيان المستعمر الغاشم، هي قرية تتسم بالهدوء، بعيدة عن الأنظار ليس من السهل الوصول إليها أو وصول أخبارها إلى السلطات الاستعمارية آنذاك، بالرغم من قيام المستعمر بتشييد مدرسة عسكرية تخرّج فيها العديد من المناضلين والأسماء الثورية التي خدمت الثورة، لتكون بمثابة سلاح ذو حدين انقلب مفعوله على المستعمر.
هـذه قصّـة بيان أوّل نوفمـبر
التحضير لكتابة ونسخ بيان أول نوفمبر عرف سرية تامة كي لا تكشف أهم أسرار ثورة التحرير، واقتصر في البداية على بعض الأسماء من الزعماء التاريخيين، حيث اقترح محمد بوضياف، على كريم بلقاسم إيجاد مكان آمن كونه يعرف خبايا المنطقة، ليقوم باقتراح قرية إيغيل ايمولا على قادة الثورة الخمسة (مصطفى بن بولعيد، العربي بن مهيدي، محمد بوضياف، ديدوش مراد ورابح بيطاط).
فكانت الخيار الأمثل لكتابة ونسخ البيان في أحد منازلها، مستعملين في ذلك آلة الرقن التي تعود ملكيتها لعبان رمضان، والذي أوصى أهله بتسليمها لقادة الثورة إذا احتاجوا إليها، لتمنح بعدها مهمة الكتابة والرقن للصحفي محمد العيشاوي، أحد المناضلين على مستوى العاصمة، والذي قدم إلى القرية معصب العينين لدواع أمنية.
تنفيذ المهمة تم بعد الاختيار الصحيح لمنزل رقن البيان، والذي تم في البداية تغييره بسبب انعدام الاضاءة، إذ تستحيل الكتابة على ضوء الشموع، ليقع الاختيار على منزل بن رمضاني عمر المدعو “عمر مزيان”، حيث تمت كتابته في ليلة واحدة من طرف الصحفي محمد العيشاوي، الذي قام بنسخه وطباعته في عدة نسخ بمنزل “ايدير رابح وايدير احسن”، هذه المرحلة التي عرفت تخطيطا محكما من اجل تفادي المستعمر.
اختار مهندسو البيان غرفة تقع فوق بقالة ومقهى بالقرية، وبجوارها غرفة أخرى استعملوها لتنظيم لعبة يناصيب في تلك الليلة أين تعالت أصوات الرجال والأطفال، الامر الذي حول الانظار اليها دون الاستماع لصوت آلة طبع ونسخ البيان الذي وضع في حقيبتين، إحداهما نقلت إلى العاصمة في اليوم الموالي.
التحضير لاندلاع ثورة نوفمبر المجيدة لم يقتصر على تحرير البيان بهذه القرية التي سجلت استشهاد 137 شهيد، وإنما عرفت تحضيرات أخرى، وهي المسألة التي أشارت إليها “النا ويزة”، أرملة المجاهد المرحوم علي زعموم، الذي اقترن اسمه بالآلة الراقنة، فقد تمكن من إعادتها إلى القرية بعد الاستقلال بعد رحلة بحث طويلة ليجدها في آث يني، وقام باسترجاعها إلى مكانها التاريخي الذي انبثق منه بيان اول نوفمبر، ووضعت اللمسات الاخيرة عليه هناك.
«النا ويزة” عادت بشريط ذكرياتها إلى الحقبة التاريخية، حيث أكدت لنا أن قرية “إيغيل ايمولا” قبل اندلاع ثورة التحرير، كانت تشهد حركية غير معتادة، وكان زوجها كثير التغيب عن المنزل، كما انه كان يستقبل شخصيات غير معروفة الأسماء، ووكلت إليه مهمة مرافقة أحد الاشخاص إلى القرية رفقة سليمان الصاعقة، انطلاقا من آيت عبد المومن إلى غاية القرية، حيث يقوم بمرافقته ليلا كي لا يعرف الطريق وهذا من أجل صناعة القنابل، هذه الشخصية التي عرفت بعدها أنه “رابح بيطاط”، وكان يقصد القرية من أجل صناعة القنابل تحضيرا لاندلاع الثورة، ولكنه وقتها لم تكن تعرف شيئا، كما أنها لم تتجرأ يوما على سؤال زوجها والاستفسار منه عن تلك الغرفة التي حولها الى مخزن يدخلها خلسة لوضع أشياء.
وقد استمر الوضع لعدة أيام الى أن حان الوقت الموعود، وبدأوا بإخراج القنابل من منزلها لوضعها في المواقع المحددة، أين أخبرها زوجها أن ما يقوم بإخفائه داخل تلك الغرفة هي عبارة عن قنابل صنعها رابح بيطاط في منزل “العيش اعمر”، وقد أخفى عنها الأمر خوفا من إفشاء السر، أو أن تقترب منها ويحدث انفجار.
وأضافت “النا ويزة”: “في اليوم الذي تقرر صعودهم إلى الجبل والإعلان عن اندلاع الثورة، حضر الى المنزل وهو في قمة السعادة قائلا: “لقد حان الوقت”، وطلب منها مرافقته الى الجهاد، ولكنها رفضت وقتها كون المكان كله رجال ولا وجود للنساء هناك، مشيرة إلى حفر الخنادق المحصنة للاختباء فيها اثناء محاصرتهم من طرف جنود الاستعمار الفرنسي، وهي العملية التي شملت العديد من القرى “انطلاقا من معاتقة، ايت بوادو، واضية وغيرها”.
«النا ويزة” قالت إن ثورة التحرير المجيدة جاءت بعد مجهودات مضنية وتخطيطات سرية، وقد شارك فيها الجميع من رجال ونساء واطفال، مشيدة في ذلك بالعمل النسوي إبان ثورة التحرير وقبل اندلاعها، حيث كن ينقلن المعلومات للمجاهدين، ويبعن المطويات والزيت والحبوب، ناهيك عن تحضير الطعام وحياكة البرانيس، إلى جانب حمل السلاح، وهذا كله من أجل استقلال الجزائر.
غادرنا منزل “النا ويزة”، واتجهنا إلى منزل “النا فاطمة” (بوشنة فاطمة)، التي عايشت هي ايضا التحضيرات لاندلاع ثورة التحرير وهي لا تتعدى سن الخامسة عشرة من عمرها، وهي أم لطفلتين ما بين العامين والأربعة سنوات من عمريهما، الا أن صغر سنها لم يكن عائقا في التحاقها بالجهاد، إلى جانب زوجها الذي سارت على دربه.
”النّا فاطمة”: منزلنا كان ورشة لصناعة القنابل
الجلوس مع “النا فاطمة” القاطنة بقرية “إيغيل ايمولا”، أشبه بمشاهدة فيلم ثوري يحاكي الأحداث التاريخية لثورة نوفمبر، كيف لا وهي قد عايشت تلك الحقبة التاريخية بكل إحداثها ومعاركها ومخططاتها وحتى تحضيراتها السرية، وكانت جزءا من هذا التاريخ الخالد خلود أسماء زعماء الثورة، وكل النجوم التي سطعت أسماؤهم في سماء الحرية والاستقلال.
ما تزال المجاهدة فاطمة بوشنة تحتفظ بكثير من الحقائق التاريخية، رغما عن ذاكرتها التي أرهقت بسبب كبر سنها، فقد عادت بنا إلى أيام الأمجاد، ومشاعرها متغيرة بين الفرح والحزن، والدموع التي تغرورق بها عيونها بين اللحظة والأخرى وهي تروي لنا أيام التحضير لاندلاع ثورة نوفمبر.
ولقد روت لنا أنها وقتها كانت في مقبل العمر، ولكنها كانت تعي جيدا أنه يتم التحضير لشيء جلل، سيعرف النور في أية لحظة، كيف لا وقد تحول منزلها إلى ورشة لصناعة الأسلحة والقنابل، وكانت شاهدة على كل مرحلة من مراحل صنعها.
«النا فاطمة” صرحت أن منزلها يرتاده يوميا مجموعات من المجاهدين لا تعرف أسماء كثير منهم، حيث وزعوا المهام فيما بينهم، فكانت المجموعة الأولى تخرج في ساعات متأخرة من الليل إلى الوديان حاملين الفؤوس والأكياس، من أجل قطع جذور شجرة الدفلة، وبعد الانتهاء يقومون بغسلها ويحملونها داخل الاكياس الى المنزل أين يتكفل زوجها العيش اعمر بنشرها فوق أسقف المنازل كي لا يكتشفها أحد.
وبعد جفافها يقومون بحرقها او طحنها لاستخراج رمادها، وهذا بمساعدة النساء اللائي يقمن بتبليله بالتراب كي لا يفقد مفعوله، وبعدها تتكفل مجموعة من المجاهدين بغربلته في قطعة خشبية، ويتم خلطه بمواد أخرى من أجل صنع القنابل منه.
هذه العملية – تقول “النا فاطمة” – كانت تتكرر كثيرا في منزلها، حيث عمد المجاهدون إلى حجب الرؤية عنها بوضع زربية كجدار عازل، إلا أنها كانت تسترق النظر اليهم من الغرفة العلوية، حيث كانت ترى عمليات تجربة مفعول السلاح ومدى نجاح التجربة، وكان المجاهدون وعلى رأسهم رابح بيطاط المكلف بصنع هذه القنابل، يعمدون الى حرق كمية من هذه المواد من أجل التأكد من نجاعتها، الأمر الذي كان يخيفها من حرق أو تفجير المنزل الشاهد على صناعة 400 قنبلة تحضيرا للثورة.
هذه القنابل التي كانت تنقل داخل أكياس أو محافظ إلى منزل علي زعموم، حيث يخفيها المجاهدون تحت برانيسهم كي لا يكتشف امرهم، وهذا بعد تأمين الطريق لهم من طرف زوجها، إلا أنه في إحدى المرات كاد أن يكتشف أمرهم بعدما اشتبه السكان بخروج احد الأشخاص من المنزل، وطلبوا منهم التستر أكثر وأخذ حذرهم كي لا تصل أخبارهم إلى المستعمر، الذي كان حينها قد دشن مدرسة عسكرية بالمنطقة.
بعد تحديد تاريخ أول نوفمبر لاندلاع ثورة التحرير، وفي الليلة التي سبقت هذا التاريخ قصد زوجها رفقة 20 مجاهدا ولاية البليدة من أجل إحضار السلاح، ولكن اكتشف أمرهم ما أدى إلى إطلاق الرصاص عليهم، وأثناء فرارهم من المكان، سقط زوجها وكسرت قدمه، فحمل على ظهر أحد المجاهدين لإنقاذه من الوقوع في أيادي المستعمرين حتى وصل به إلى سوق الاثنين بمعاتقة أين تم علاجه، ليستمر في النضال قبل إلقاء القبض عليه والزج به في سجن البرواقية لمدة ستة سنوات، فحملت عنه المشعل بعدما استنجد بها المجاهدون لتسلك نفس طريق زوجها وتواصل النضال.
”النّا فاطمة” والفرس المسبّلة
عند اندلاع ثورة التحرير، قرّر المجاهدون توزيع الأغنام وبعض الأحصنة وحتى الحمير على بعض العائلات في المنطقة، وهذا لمساعدتهم على القيام بمختلف المهمات الموكلة اليهم في خدمة ثورة التحرير، حيث كانت تربى الاغنام من أجل ذبحها والاستفادة من لحمها وصوفها، إلى جانب الحمير والأحصنة من أجل المساعدة في عمليات التنقل ونقل المساعدات.
وعرفت تلك الفترة من الثورة لتحريرية انعدام وسائل النقل، ولهذا فقد عهدت إلى المجاهدة النا فاطمة، الاهتمام بفرس، على أن يتولى المجاهدون تأمين العلف لها، وكل ما عليها هو الاهتمام بها، وتسليمها للمجاهدين إذا اقتضت الحاجة.
«النا فاطمة”، علّلت موافقتها على الاهتمام بالفرس كونها تملك معصرة زيتون والفرس تساعدها في مختلف الأعمال، من حمل الماء على ظهرها وعصر الزيتون، دون أن تعلم أحدا بالغاية الحقيقية للاحتفاظ بها.
الفرس أصبحت رفيقة “النا فاطمة”، حيث كانت تحضّر لأداء المهمات أين كان المجاهدون يبعثون في طلبها، فتسلمها لهم في الساعات المتأخرة من الليل ويرجعونها في فجر اليوم الموالي دون أن يعلم أحد بمغادرتها القرية.
وفي يوم تروي “النا فاطمة”، أنها استيقظت قبل الفجر وخرجت خارج المنزل لتفقد الوضع لتتفاجأ بعودة الفرس، ولكنها ملطخة بالدماء، الأمر الذي أثار مخاوفها ودفعها الى الذهاب الى الواد أين قامت بتنظيفها قبل استيقاظ السكان ومرور دوريات الجيش الفرنسي، لتقوم بعدها بإخبار المجاهدين بالأمر مطالبة منهم توخي الحذر، وعدم ارتكاب مثل هذه الأخطاء التي ستنعكس سلبا على مسار نضالها الثوري، ويهدد بإلقاء القبض عليها أو التخلص منها نهائيا.
استمرت محدّثتنا في سرد مشوارها النضال، وقالت إن الجنود الفرنسيبن اقتحموا منزل أحد أقاربها الذي تعيش فيه والدتها وابنتيها، فألقوا القبض عليها وزجّوا بها في السجن لمدة ثلاثة أشهر، حيث اشترطت عليهم أخذ ابنتها معا كونها صغيرة وما زالت ترضع من صدرها، لترافقها إلى السجن كأصغر سجينة، وبعد استجوابها صرحت لهم انها فعلا تعمل لصالح الثورة.
وقد سلكت نفس مسار زوجها، وأن المرأة ليس لها كلمة أمام سلطة الرجل، لتبقى في السجن مدة وبعدها أطلق سراحها، ولكنها غادرت القرية نحو مكان آخر بعدما اشتدت أعين المراقبة عليها، لتترك بناتها في عهدة والدتها وتغادر لمواصلة الجهاد رفقة المجاهدين، حيث كانت تتكفل بأعمال الطبخ، غسل الملابس، تزويد الثورة بالمعلومات، إلى أن سطع فجر الحرية معلنا عن استقلال الجزائر.
أنقذوا آلة رقن وطباعة بيان أوّل نوفمبر
قرية “إيغيل ايمولا”، في أعالي جبال جرجرة قلعة ومعقل الثوار، ما تزال اليوم شاهدة على اعظم ثورة شهدها التاريخ والعالم، وهذا ما يلمسه الزائر لهذه القرية الثورية التي تحتفظ بمعالم تاريخية تعتبر موروثا تاريخيا يجب المحافظة عليه، ويتمثل أساسا في آلة رقن بيان نوفمبر الطابعة التي نسخ عليها، ولكن اليوم وبعد مرور 69 سنة عن اندلاع ثورة التحرير، وجب على المسؤولين التدخل لإنقاذ هذا الموروث الثقافي المهمل، والذي اقتصر تواجده في غرفة مهجورة يكسوها الغبار والصدأ، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن هذا الموروث سيندثر ويبقى مجرد ذكرى في أذهان من عايشوا ثورة التحرير.
أرملة علي زعموم، تناشد السلطات العليا للبلاد ومن خلال جريدة “الشعب”، من أجل إنقاذ هذا الموروث التاريخي وحمايته من التلف والاندثار، مطالبة بضرورة إعادته الى مكانه الأصلي من خلال اعادة تهيئة الغرفة التي نسخ فيها بيان أول نوفمبر، كونه المكان المثالي له ليكون موقعا تاريخيا نستذكر فيه تاريخا مجيدا، ويكون شاهدا على ثورة عظيمة فجّرها رجال ونساء عاهدوا الله على تحرير الجزائر.
نيليا/تيزي وزو
dhakira.echaab.dz