قرّاءنا الأعزّاء،
خذوا نَفَسًا عميقًا، أَحْضِروا دَفْتَرًا، ودَوِّنوا. البيانُ الصادرُ عن وزارةِ الشؤونِ الخارجيّةِ الجزائريّةِ الذي اطّلعتم عليهِ ليس مُجرَّد بيانٍ عاديٍّ… بل هو تحفةٌ تكتيكيةٌ فائقةُ الذكاء، وعملٌ بديعٌ في علمِ النفسِ الدبلوماسي. نصٌّ مَصُوغٌ بدقةٍ مُتناهيةٍ، حيثُ كُلُّ كلمةٍ، كُلُّ جُملةٍ، كُلُّ تلميحٍ، هو مُناورةٌ مدروسةٌ بِحِرْفِيَّةٍ عالية.
تستجيبُ معظمُ الدولِ للتوتّراتِ بردودِ فعلٍ انفعاليّةٍ أو قراراتٍ مرتجلةٍ متسرّعةٍ… أمّا هنا، فنحنُ أمامَ عملٍ مُتقَنٍ صِيغَ بمِبْضَعِ الجراحِ، دقيقٍ كَحَرَكةِ لاعبِ الشِّطْرَنْجِ الذي يُخطِّطُ لثلاثِ نقلاتٍ مُقدَّمًا. بينما يَظُنُّ البعضُ أنهم يُمْلُونَ إيقاعَ اللّعبة، تُذكِّرُهم الجزائرُ، ببرودٍ محسوبٍ، أنّها هي من يُمسِكُ بِزِمامِ الأمور، وأنّها وحدَها تُحدِّدُ وَتِيرَةَ اللِّعْبِ.
أمّا رفضُ الإملاءاتِ والتهديداتِ؟ فهو درسٌ يُدرَّسُ في فنِّ الردِّ الدبلوماسيّ. لا صُراخ، لا تَوتُّر، لا ضجيجٌ عاطفيٌّ مُبالَغٌ فيه. بل رَدٌّ حازمٌ، مُهَذَّبٌ في سطوره، باردٌ كحدِّ السَّيفِ في مَضْمُونِه، لا يُمكنُ الطَّعنُ فيهِ لِارتِكازِهِ على حقائقَ دامغةٍ. الجزائرُ لا تَقِفُ عندَ الرفضِ فحسبُ، بل تُحوِّلُ الطاولةَ على مُحاوِلي الضغط، تُعيدُ الكُرةَ بكلِّ ثِقةٍ، وتَفرِضُ على الطَّرفِ الآخَرِ إعادةَ تَموْضُعِهِ. إنّهُ فَنٌّ سياسيٌّ على أعلى المُستويات.
ثمّ، لِنَتَأمَّلَ الإشارةَ إلى الاتفاقاتِ المُوقَّعةِ… حيثُ كانَ بإمكانِها أن تَنساقَ إلى مُزايداتٍ عاطفيّةٍ، اختارت الجزائرُ أن تَستَعْرِضَ بهُدوءٍ، وبأسلوبٍ قاطعٍ، النُّصوصَ الدَّقيقةَ، مُحيلةً الطّرفَ الآخرَ إلى توقيعاتِهِ السّابقةِ. إنّهُ ذكاءٌ نفسيٌّ مُتفرِّدٌ يُرْسِلُ رِسالةً ضمنيّةً واضحةً: “هل ظَنَنْتُم أنّكم أَحْكَمْتُم الطَّوقَ من حَولِنا؟ بل أنتمُ الذين وَقَعْتُم في فَخِّ التزاماتِكم!”
إنّهُ ليسَ مجرَّدَ رَدٍّ، إنّهُ حركةُ مُحاصَرةٍ مُحْكَمة، واستعراضٌ بديعٌ للسيادةِ في أسمى تجلِّياتِها. رسالةٌ صريحةٌ لا لَبْسَ فيها: الجزائرُ ليست دَولةً يُمكِنُ مُضايَقَتُها أو جَرُّها إلى ردودِ فِعْلٍ مُرتَجَلَةٍ. بل هي دولةٌ تُحدِّدُ قواعدَ اللُّعبة، تُؤطِّرُ، وتَحسِمُ المساراتِ بِدِقَّةٍ.
نحنُ لسناُ في خانةِ الرُّدودِ المُتسرِّعةِ، بل في مَرحلةِ الاستباقِ الهادئ، في مرحلةِ الحساباتِ المُحْكَمة. قد يَثورُ البعضُ، قد يَحاولونَ الاحتِجاج، لكنَّهم استوعبوا اليومَ أنّهم لم يَعُودُوا يَملِكونَ السيطرةَ على السِّياق.
اللِّعبةُ حُسِمَت. النّتيجةُ واضحةٌ. الجزائرُ تُمسِكُ بِالزِّمام.