من بلدية العيون في دائرة القالة، حيث تتنفس الأرض ذاكرة التحرير وتحتضن بقايا الألم القديم، ارتفع نصب تذكاري شامخ، يروي للأجيال قصة وفاء متبادل بين شعبين اختارا أن تُكتب صداقتهما بعرق الرجال ودم الشجعان.
لقد جاء تدشين هذا المعلم تخليداً لبطولات فرسان من نوع آخر: خبراء نزع الألغام من جيش الاتحاد السوفيتي الذين، غداة الاستقلال، جاؤوا إلى الجزائر لا ليحملوا السلاح، بل ليزرعوا الأمل. إلى جانب رفقائهم من الجيش الوطني الشعبي، واجهوا معاً الموت الصامت المدفون في الأرض، حاملين أدوات بسيطة وإيماناً عميقاً بالإنسانية.
ما أروع أن تتحول أرض الألم إلى أرض للحياة، ورمز الخطر إلى رمز للنماء. تلك هي الرسالة التي اختزلها المشهد، حين عاد العقيد أندري بافلينكو إلى ولاية الطارف، إلى أرض يعرفها جيداً، وإلى وجوه لم تنسَ جميله. كلماته المؤثرة وهو ينحني أمام ذاكرة الشهداء لامست القلوب، مؤكدة أن العلاقة بين الجزائر وروسيا لم تكن يوماً علاقة مصالح عابرة، بل رابطة روحية صاغتها المواقف لا الخطابات.
لقد أدرك الشعب الجزائري، وهو الذي ناضل كثيراً من أجل الحرية، أن الوفاء قيمة لا تُقاس بالسنوات. فالذين ساهموا في إزالة إرث المستعمر السام، أزالوا أيضاً ما تبقى من خوف في النفوس، ليُعيدوا الحياة إلى مناطق كانت يوماً رمزا للموت.
العلاقات الجزائرية الروسية اليوم تستمد قوتها من ذلك التاريخ المتين. من التحديات المشتركة إلى التعاون في مجالات الدفاع والطاقة والتعليم، يظل الخط الرابط بين البلدين هو نفسه: الثقة، والاحترام المتبادل، والإيمان بالسيادة الوطنية كخط أحمر.
وعندما تُزيَّن ذاكرة الشعوب بأسماء رجال مثل أندري بافلينكو، فإنها لا تحتفل بشخص، بل تحتفي بمعنى الإنسانية ذاته. ذلك الإنسان الذي واجه الموت من أجل أن يعيش الآخرون، والذي بقي رمزاً لما تمثله الصداقة الجزائرية الروسية من إخلاص في القول والعمل.
إن هذا النصب، كما قال والي الطارف في كلمته، سيبقى شاهداً للأجيال على نبل الإنسان الذي مثله هذا العقيد الروسي، وعلى عمق الروابط بين الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية وجمهورية روسيا الفيدرالية.
في زمن تتبدل فيه التحالفات وتُشترى فيه الصداقات بالمال، تبقى العلاقة الجزائرية الروسية استثناءً يليق بتاريخها. علاقة من معدن لا يصدأ، لأنها وُلدت من تراب المعركة، ونمت على احترام الكرامة، وستستمر ما بقي في الأرض من ذاكرة، وفي القلوب من وفاء.
Hope&ChaDia