عندما نقلب في صفحات التاريخ تظهر أمامنا صفحات مشرقة لتاريخ الاسلام ونبيه الاعظم محمد “صلى الله عليه واله“، نجد الكثير من المأثر والشواهد التي حصلت في ذلك الوقت للنبي الاكرم, والتي تحدث عنها القرآن الكريم، وعليه فإنَّنا نريد أن نفهمه ونعرفه ونتابعه ونستغرق في كلّ حياته، لأنَّ حياته بمجملها رسالة، لأنّه النبي الّذي تجسّدت الرّسالة في كلّ حركة كيانه، فهو رسالة متحركة وهو قرآن ناطق.
فكلَّما فهمنا النبي الاعظم “صلى الله عليه واله” أكثر، فهمنا الإسلام أكثر، ومن هنا تأتي أهميَّة معرفة السّيرة النبويّة الشَّريفة، حيث انها كانت أفضل سيرة للنّبيّ الاعظم هي سيرته في القرآن، لأنَّ الله بين حركة الرّسالة في النبي الاكرم “صلى الله عليه واله” ، وعن صفات النبي محمد، بالأسلوب الّذي يتجسَّد في كلّ ما يتحرّك فيه.
إذن فما الجواب للسؤال الذي يطرح نفسه، ما هي المهمَّة الأساس للنّبيّ الاكرم “صلى الله عليه واله” في حركة الرّسالة.؟ يؤكد لنا القرآن ذلك الجواب في قوله تعالى:﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾[1]. اذن ان الدَّور الّذي يقوم به النبي الاكرم محمد أوّلاً هو أن يتلو على النّاس آيات الله كما نزلت، لا يزيد فيها ولا ينقص وذلك في قوله تعالى ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾[2].
وقد اكد لنا الله “عزوجل” في قوله ﴿ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴾[3]، نستنتج من ذلك ان مهمَّة النبي الاعظم محمد هي ان يتلوه ليسمعه النّاس ، ثم يفكّروا فيه تلقائيّاً، وبعدها يعيشوا معه، حيث كان يتلو القرآن في مكّة، والقوم يأتون متخفِّين يستمعون إليه، كأبي سفيان وأبي جهل وغيرهما، وكانوا يحاولون أن لا يفتضح سرّهم، إلا أنهم كشفوا بعضهم بعضاً في نهاية المطاف، وكانوا يتأثَّرون به وينفعلون[4].
نستنتج من ذلك أنَّ تلاوة القرآن لا بدَّ من أن تكون برنامجاً علميا وتربويّاً في كلّ المجتمع الإسلاميّ، حتى نعيش القرآن في أنفسنا، ويعيشه النّاس معنا، وأن نجعل الجوَّ من حولنا قرآنيّاً، في الوقت نفسه أن ننقله من جيلٍ إلى جيل، ليبقى كتاب الله حيّاً في كلماته، ولا يكفي أن يبقى حيّاً في عيوننا عندما تحدِّق فيه، أو في أسماعنا عندما تستمع إليه.
كذلك بين لنا القــرآن الحكــيم مهمة النبي الاكرم هي التَّزكية وذلك في قوله تعالى ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ﴾، وهذه هي المهمَّة الثّانية، وهي “التزكية”، الّتي تمثّل في تفسيرها “التربية والتّطهير والتّنمية” ، فاثر النبيّ الاكرم “صلى الله عليه واله” هو أن ينمّي النَّفس الإنسانيَّة على أساس الطّهر والنّقاء، أي يجعل من الإنسان الّذي يعيش معه إنساناً نامياً في عقله وقلبه وروحه وكلّ طاقاته على أساس القاعدة “النّقاء والطّهارة“.
ثم يؤكد لنا القران ان مهمة النبي الاكرم هي تعليم وذلك في قوله تعالى:﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، نستنتج من قوله تعالى ان النَّبيّ الاكرم “صلى الله عليه واله” يعلِّمنا الكتاب على انه “فكرٍ وبرنامجٍ ومنهجٍ “، كذلك ان الله “عزوجل” يريد أن نتعلَّم علم الكتاب، اذن السؤال هو كيف نتعلم علم الكتاب؟ الجواب هو في قوله تعالى ﴿وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾[5]، وعليه ان النبي الاكرم محمد هو المعلِّم للحياة من خلال ما يلهمه الله من معرفةٍ للحياة.
وهناك مهمَّة أخرى للنبي الاعظم محمد “صلى الله عليه واله“، وهي مهمَّة الحكم بين النّاس، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً ﴾[6]، يعني جل ثناؤه بقوله يا نبي الله ان تحكم بين النّاس في منازعاتهم وخصوماتهم، سواء كان في الفكر أو في الواقع، بما أراه من الحقِّ أي بما أنـزل الله إليك من كتابه. وقد جعل الله الحكم بالحقِّ الّذي يتَّسع لكلّ قضايا الحياة من مهمَّات الخلافة في الأرض، ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾[7].
ثم يؤكد الله “عزوجل” إلى أهل الكتاب، أنّ هذا النبي الاكرم محمد(صلى الله عليه واله) يعلم علم الكتاب، ولذلك فإنّكم لا تستطيعون إخفاء شيء من الكتاب لأنّه يعلمه، وذلك في قوله تعالى ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾[8] ، نستنتج من الآية الكريمة ان النبي الاكرم محمد “صلى الله عليه واله” كان يملك ثقافة الكتاب كلّه، فإذا أخفوا ما يرثونه منه، فإنَّ النبيّ يعرف ذلك ويعلمه. ثم بعد ذلك يؤكد الله “عزوجل” للنبيّ الاكرم محمد سينتصر ويقضي على الشرك في نهاية المطاف ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾[9].
وكذلك من صفات النبي الاكرم “صلى الله عليه واله” هي “الانسانية“، حيث يؤكد لنا الله سبحانه وتعالى في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً﴾[10]، اذن هو الدّاعي إلى الله برسالته الكريمة، وهو المبشّر بالجنّة لمن آمن وأطاع، وهو المنذر بالنّار لمن كفر وعصى، وهو الشّاهد على الناس فيما يتحركون فيه على خطِّ الاستقامة أو الانحراف، كذلك هو السِّراج الّذي يضيء للنّاس برسالته الّتي كلّها نور وضياء، ولذا كان دور النبي الاكرم محمد أن يخرج النَّاس من الظّلمات إلى النّور بعقله وقلبه وروحه وحياته. ثم يبين القرآن الكريم كيف كان النبيّ الاكرم” صلى الله عليه واله” يتحاور مع النّاس بعيداً عن أيّ تأثيرٍ آخر، حتى يربطهم بالرسالة السماوية.
هناك حقيقة لا بد من ذكرها الا وهي، إنَّ الله أراد للنّبيّ الاكرم محمد “صلى الله عليه واله” أن يحرّك النّاس مع الرّسالة، بعيداً عن أيّ تأثيرٍ آخر، وأن يبين للإنسان كانسان بأنَّ لك عقلاً تفكّر فيه، وأنَّ لك عينين تبصر بهما، وأذنين تسمع بهما، ففكّر بعيداً عن أيّة مؤثرات خارجيّة وعن أية أوضاع غيبيّة.
يبدو ان النبي الاكرم محمد “صلى الله عليه اله” لم يرد للنّاس أن يؤمنوا به من أجل وضعٍ غيبيّ، لان النّبوّة غيب مرتبطة بمعنى غيبيّ، وهو الوحي الّذي ينزل من السّماء، بل ارادهم أن يؤمنوا به من خلال عقل يفكّر، فالله يؤكد لنا هذه الحقيقة في كتابه ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ﴾[11] كذلك في قوله ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[12] يبدو ان النبي الاكرم محمد “صلى الله عليه واله” يريد ان يقول خاطبوني بما تخاطبون به البشر، وإنّني أتحرك فيكم برسالتي على أساس أنّني بشر ألقي إليكم الرسالة لتفكّروا فيها ولتقتنعوا بها، ولتكون قناعتكم من خلال وعيكم الوجدانيّ، لا من خلال مؤثّراتٍ أخرى خارجة عن الطَّبيعة ﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾[13].
في الوقت نفسه، أن الله سبحانه وتعالى كرَّر هذه المسألة في أكثر من مره، وذلك عندما قصَّ على نبينا الاكرم كثيراً من القصص، على سبيل المثال لا الحصر قصَّة مريم، وقصَّة يوسف، ليؤكِّد الله تعالى بأنّه هو الَّذي أنزل على النبي الاكرم تلك الرسالة الانسانية ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾[14]. نستنتج من ذلك ان اثر النبي هو السِّراج المنير وللآيات الّتي تنزل عليه كنور ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور﴾[15] اذن ان السِّراج هو الّذي يحمل النّور ولا ظلمة فيه، وكيف يبعث الله رسولاً ليخرج النّاس من الظّلمات إلى النّور إن لم يكن نوراً؟ فمن لا يكون زكيّاً، كيف يا ترى يزكّي النّاس؟ ومن لا يكون ذاكراً كيف يذكِّر الناس؟ ومن لا يكون حقّاً كلّه ونوراً كلّه، كيف يمكن أن يغيّر العالم على أساس الحقّ؟
ومما تجدر الإشارة اليه ان الله تعالى أراد من النبي الاكرم أن يصبر على الأذى، ولقد كان النبيّ الاكرم محمد “صلى الله عليه واله” نبيّ المستضعفين، والله تعالى يأمره أن يجالسهم، يبدو إنّ هؤلاء هم أقرب النّاس للتفاعل مع الرّسالة السماوية، لأنهم يعيشون الفطرة في عقولهم ونفوسهم ، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾[16] لقد حمل رسالته وقال: “ما أوذيَ نبيّ مثل ما أوذيت” [17] وواجه الكثير من الأفعال السلبيّة والاضطهاد والاتهام حتى في عقله، وبقي مصراً على الرّسالة السماوية من أجل أن يبلّغها إلى النّاس اجمعين، حتى أكمل الله للمؤمنين دينهم، وأتمَّ عليه وعليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام ديناً، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ [18].
جعفر رمضان
[1] سورة البقرة، الآية 151.
[2] سوره الحاقة ، الآية 44 ـ 46
[3] سورة النمل، الآية 92.
[4] ، للمزيد من التفاصيل عن ذلك ينظر . عدنان فرحان آل قاسم ، دروس في السيرة النبوية “منهج تحليلي موضوعي لدراسة احداث السيرة النبوية واستلهام المعطيات والدروس والعبر منها”، تحقيق باقر شريف القرشي، (بيروت: دار السلام، 2011)، ج1 -2.
[5] سورة البقرة ،الآية 151.
[6] سورة النساء، الآية 105.
[7] سورة ص، الآية 26.
[8] سورة المائدة، الآية 15.
[9] سورة التوبة ،الآية 33
[10] سورة الاحزاب ، الآية 45-46.
[11] سورة الانعام ، الآية 50
[12] سورة الكهف ، الآية 110.
[13] سورة هود ، الآية 12
[14] سورة الشورى ، الآية 52.
[15] سورة الحديد ، الآية 9
[16] سورة الانعام ، الآية 52.
[17] محمد باقر المجلسي ، بحار الأنوار، الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (طهران: احياء الكتب الإسلامية ( ، ج 39، ص 56.
[18] سورة المائدة، الآية 3