في إطار التزام دستوري وسياق سياسي واقتصادي محوري، ألقى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون خطابه السنوي أمام البرلمان بغرفتيه، وذلك في قصر الأمم بنادي الصنوبر في العاصمة الجزائرية. يُعد هذا التقليد فرصة سنوية لتقييم أداء الحكومة والمؤسسات، واستشراف التحديات والفرص في المستقبل. الخطاب لم يقتصر فقط على الأبعاد الداخلية، بل تناول أيضًا السياسة الخارجية، وأكد على أهمية بناء جزائر قوية اقتصاديًا وسياسيًا.
دلالات الخطاب وتوقيته الاستراتيجي
جاء الخطاب في الأشهر الأولى من عهدة الرئيس الثانية، ليؤكد على استمرارية الالتزام بتقييم السياسات واستعراض الأهداف المقبلة. توقيته يحمل أبعادًا رمزية ودلالات سياسية عميقة؛ إذ يتزامن مع بداية عام جديد، ما يتيح فرصة للتخطيط المستقبلي ووضع رؤية وطنية مشتركة. كما يُظهر الخطاب رغبة صادقة في تعزيز الحوار بين القيادة والشعب، من خلال ممثليهم في البرلمان، مما يعكس تطورًا ملحوظًا في الممارسة السياسية بالجزائر.
ركز الخطاب أيضًا على أهمية الحوار الوطني كآلية لتعزيز الوحدة الوطنية، وقطع الطريق على محاولات زعزعة استقرار البلاد من قوى خارجية معروفة بعدائها للجزائر. ولعل الهدف الأسمى هنا هو تقوية الجبهة الداخلية لمواجهة التحديات المتزايدة إقليميًا ودوليًا.
التوجهات الاقتصادية: نمو مستدام وأفق مشجع
على الصعيد الاقتصادي، استعرض الرئيس تبون الإنجازات التي حققتها الجزائر خلال السنوات الأخيرة. وذكر أن تقارير صادرة عن مؤسسات دولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تشير إلى أن الاقتصاد الجزائري في تحسن ملحوظ. وصف الرئيس الوضع بـ”المؤشرات الخضراء”، مشيرًا إلى تحقيق الجزائر لسيادتها الغذائية، حيث صُنّفت من قبل منظمة الأغذية والزراعة (FAO) كالدولة الوحيدة في المنطقة الإفريقية والعربية التي تحقق الأمن الغذائي على مدى ثلاث سنوات متتالية.
وأكد الرئيس أن الجزائر تسعى لتحفيز الاستثمارات المحلية والأجنبية من خلال قوانين مستقرة وثابتة، مشيرًا إلى إطلاق أكثر من 20,000 مشروع استثماري جديد في قطاعات متعددة. هذه المشاريع ستساهم في خلق فرص عمل واسعة، ما يدعم جهود الدولة في تقليص البطالة وتحقيق التنمية المستدامة. كما أشار إلى التزام الحكومة بمواصلة الإصلاحات الاقتصادية التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد وتعزيز مرونة الجزائر أمام الصدمات العالمية.
تحدث الرئيس أيضًا عن استغلال الثروات المعدنية مثل الفوسفات والحديد، مؤكدًا أن المشاريع الضخمة مثل منجم غار جبيلات ستسهم في زيادة الإيرادات وتعزيز مكانة الجزائر كقوة اقتصادية إقليمية. كما سلط الضوء على التطور الملحوظ في قطاع الزراعة، الذي شهد قفزة نوعية في الإنتاج، مما يدعم رؤية الجزائر نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي.
السياسة الخارجية: أدوار دبلوماسية رائدة
في خطابه، أكد الرئيس تبون على عودة الجزائر إلى الساحة الدولية كقوة دبلوماسية فاعلة، خاصة مع مرور عام على عضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن. وذكر أن الجزائر ملتزمة بالدفاع عن القضايا العادلة، مثل القضية الفلسطينية وقضية الصحراء الغربية، عبر مرافعات قوية في المحافل الدولية.
أبرز الخطاب نجاح الجزائر في تعزيز دبلوماسيتها البرلمانية، التي أصبحت ركيزة مهمة في السياسة الخارجية. من خلال مشاركة البرلمانيين الجزائريين في المنظمات الإقليمية والدولية، أصبحت الجزائر صوتًا قويًا يدافع عن مبادئ العدالة وعدم التدخل، وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
الرئيس أشار أيضًا إلى أهمية تعدد الشراكات الاقتصادية والدبلوماسية، حيث تعمل الجزائر على تعزيز علاقاتها مع قوى عالمية مثل الولايات المتحدة، روسيا، والصين، بالإضافة إلى دول الاتحاد الأوروبي. هذا التوجه يعزز استقلالية الجزائر السياسية والاقتصادية، ويدعم رؤيتها كدولة ذات سيادة تعتمد على مبادئها.
إصلاحات سياسية ومبادئ الحكم الرشيد
ألقى الرئيس الضوء على الإصلاحات السياسية الجارية، مشيرًا إلى أهمية تعزيز التشاركية في صنع القرار، من خلال إشراك الأحزاب السياسية، المجتمع المدني، والنخب الأكاديمية. وأكد أن البرلمان بغرفتيه يلعب دورًا محوريًا في صياغة القوانين ومراقبة أداء الحكومة، مما يعزز الشفافية والمساءلة في العمل السياسي.
تحدث الرئيس أيضًا عن مراجعة قوانين الجماعات المحلية، التي من المتوقع أن تمر عبر البرلمان للنقاش والإثراء قبل المصادقة. هذه القوانين ستعزز من دور البلديات والولايات في تحقيق التنمية المحلية، مما يدعم استراتيجية الحكومة لتقريب المؤسسات من المواطن.
كما أشار إلى أهمية الحوار السياسي الوطني، الذي يهدف إلى تقوية الجبهة الداخلية وتعزيز اللحمة الوطنية. وأكد أن الأحزاب السياسية مدعوة إلى لعب دور فعّال في تكريس ثقافة الحوار، والعمل بشكل مشترك لتحقيق الأمن والاستقرار.
تعزيز الوحدة الوطنية ورسائل للداخل والخارج
ركز الخطاب على ضرورة تعزيز الوحدة الوطنية، كركيزة أساسية لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية. وأشار الرئيس إلى أن التلاحم بين الشعب ومؤسسات الدولة هو السبيل لضمان استقرار الجزائر واستمرارها في مسارها التنموي.
وجه الرئيس رسائل واضحة للخارج، مفادها أن الجزائر ثابتة على مواقفها، ومصممة على الدفاع عن مصالحها وسيادتها. كما أكد أن الدولة تعمل على مواجهة محاولات زعزعة استقرارها من خلال تقوية مؤسساتها وبناء اقتصاد قوي ومستدام.
آفاق المستقبل: نحو جزائر جديدة
اختتم الرئيس خطابه بالتأكيد على أن الجزائر تمضي بخطى ثابتة نحو تحقيق رؤيته للجزائر الجديدة، التي تقوم على مبادئ الديمقراطية التشاركية، العدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة. وأكد أن الحكومة ملتزمة بتلبية احتياجات المواطنين، سواء من خلال زيادة الرواتب أو تحسين الخدمات الأساسية مثل السكن، التعليم، والصحة.
هذا الخطاب السنوي، الذي يجمع بين استعراض الإنجازات وتحديد التحديات، يكرس نهجًا جديدًا في العمل السياسي، ويضع أسسًا صلبة لجزائر قوية ومتطورة. الشعب الجزائري، وفقًا للرئيس، شريك أساسي في هذه المسيرة، مما يعكس رؤية شاملة تضع المواطن في صلب عملية البناء الوطني.