تُعد الجزائر اليوم واحدة من الدول المحورية في المشهد الجيوسياسي الأفريقي والدولي، إذ تلعب دوراً متزايد الأهمية في بناء الجسور بين القوى العالمية والقارة الأفريقية. وتأتي روسيا في طليعة هذه القوى، حيث تشكل العلاقات الاستراتيجية بين الجزائر وروسيا نموذجاً فريداً لتعاون يهدف إلى تحقيق توازنات جديدة في النظام العالمي. من هنا، تأتي أهمية رسو السفينة الروسية “ميركوري” في ميناء الجزائر، وما يعكسه هذا الحدث من رسائل ودلالات سياسية واقتصادية وأمنية.
بدأت العلاقات بين الجزائر وروسيا منذ عقود طويلة، وتحديداً في فترة الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، عندما كانت موسكو داعمة لحركات التحرر الوطني في أفريقيا. هذا التراث التاريخي منح العلاقات بين البلدين بُعداً أعمق من المصالح السياسية والاقتصادية المباشرة، إذ تستند إلى مفهوم الشراكة المبنية على الثقة المتبادلة. ولذلك، ليس من المستغرب أن يتميز التعاون بين البلدين بالثبات رغم تغير الظروف الدولية.
التعاون العسكري والاستراتيجي
يعكس وصول السفينة الحربية الروسية “ميركوري” إلى ميناء الجزائر ضمن برنامج التعاون العسكري الثنائي بين البلدين مدى عمق العلاقة الاستراتيجية. فبينما كانت العلاقات الدولية تمر بمرحلة توتر وصراع على النفوذ في أفريقيا، أظهرت الجزائر وروسيا قدرتهما على الحفاظ على شراكتهما من خلال التعاون المستمر في مجال الدفاع. هذا التعاون لا يقتصر على الزيارات الرمزية، بل يشمل تدريبات ومناورات مشتركة، وتبادل الخبرات في مجالات التكنولوجيا العسكرية.
تُظهر الجزائر، من خلال هذا النوع من التعاون، قدرتها على الحفاظ على التوازن بين مصالحها الأمنية ومصالحها الاقتصادية. فهي تدرك أن التعاون مع روسيا يمنحها مزيداً من الاستقلالية في اتخاذ قراراتها الدفاعية، ويعزز موقفها كقوة إقليمية قادرة على حماية مصالحها ومصالح القارة الأفريقية من التدخلات الأجنبية.
دعم الاستثمار والتنمية الاقتصادية
لا تقتصر العلاقة بين الجزائر وروسيا على المجال العسكري فحسب، بل تمتد إلى التعاون الاقتصادي. ففي ظل التحديات الاقتصادية العالمية، باتت الجزائر تسعى إلى تنويع مصادر شراكاتها الاقتصادية واستقطاب الاستثمارات الخارجية لتعزيز نموها الاقتصادي. ومن هذا المنطلق، تأتي أهمية التعاون مع روسيا التي ترى في الجزائر شريكاً استراتيجياً لفتح الأسواق الأفريقية أمام منتجاتها واستثماراتها.
تشجع الجزائر الدول الأفريقية على استقبال الاستثمارات الروسية، وتؤكد في المحافل الدولية أن الشراكة الاقتصادية مع موسكو تعود بالنفع على القارة ككل. إذ تدرك الجزائر أن روسيا، رغم أنها ليست بقوة اقتصادية مثل الولايات المتحدة، إلا أنها تملك رؤية مختلفة للعلاقات الاقتصادية. فبينما تعتمد القوى الغربية غالباً على فرض سياساتها من خلال الضغوط الاقتصادية أو العسكرية، تتبع روسيا نهجاً يعتمد على التعاون والشراكة المبنية على المصالح المشتركة.
السياسة الخارجية المتوازنة
تتبنى الجزائر سياسة خارجية تقوم على الحفاظ على استقلالية قراراتها وحماية سيادتها الوطنية. هذا المبدأ كان واضحاً في موقفها من بعض الأنشطة الروسية في القارة الأفريقية، مثل تدخل مجموعة فاغنر في بعض النزاعات. ورغم أن الجزائر تعتبر روسيا حليفاً استراتيجياً، إلا أنها لم تتردد في إرسال رسائل واضحة لموسكو بضرورة احترام سيادة الدول الأفريقية وعدم تكرار أخطاء القوى الغربية في فرض الحلول من الخارج.
تُعتبر هذه الرسائل بمثابة تأكيد من الجزائر على أن التعاون مع روسيا يجب أن يكون قائماً على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون الدول الأفريقية. ويبدو أن هذه الرسائل قد لاقت صدى إيجابياً لدى موسكو، حيث أشارت تقارير إعلامية إلى أن روسيا استجابت لطلب الجزائر في هذا السياق، ما يعزز من عمق العلاقات بين البلدين.
رسائل الجزائر للعالم
من خلال تعاونها مع روسيا، ترسل الجزائر رسائل متعددة الأطراف. فهي تُظهر لدول العالم قدرتها على تنويع شراكاتها الاستراتيجية، وعدم الاعتماد الكلي على قوة واحدة. كما تبعث برسالة واضحة للغرب، وتحديداً فرنسا، مفادها أن الجزائر تمتلك خيارات متعددة في بناء شراكاتها الاقتصادية والاستراتيجية، وأنها لن ترضخ لأي ضغوط من أي طرف.
إن التعاون مع روسيا لا يعني بالضرورة معاداة الغرب، بل يعكس رؤية الجزائر لبناء علاقات دولية متوازنة تخدم مصالحها القومية. وتظل الجزائر متمسكة بموقفها الثابت من رفض جميع أشكال الاستعمار الجديد، سواء أكان من قبل القوى التقليدية أم من القوى الجديدة التي تسعى إلى الهيمنة على موارد القارة الأفريقية.
التحديات والفرص المستقبلية
تواجه الجزائر وروسيا تحديات مشتركة في بناء هذه الشراكة الاستراتيجية. فروسيا تسعى إلى الحفاظ على دورها كقوة عالمية في ظل صراعات دولية معقدة، بينما تحاول الجزائر تعزيز مكانتها كقوة إقليمية مؤثرة. ويتطلب النجاح في تحقيق هذا التعاون المستدام تفادي التورط في النزاعات المحلية، والتركيز على تحقيق الاستقرار والتنمية الاقتصادية.
ومن الفرص التي يمكن للبلدين الاستفادة منها، تعزيز التعاون في مجالات التكنولوجيا المتقدمة والطاقة والزراعة. إذ يمكن للخبرات الروسية في هذه المجالات أن تسهم في دعم جهود الجزائر لتحقيق الأمن الغذائي وتنويع اقتصادها بعيداً عن الاعتماد على النفط والغاز. كما يمكن للتعاون في مجال الطاقة النووية لأغراض سلمية أن يفتح آفاقاً جديدة لكلا البلدين.
تثبت الجزائر من خلال علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا أنها تمتلك رؤية واضحة لبناء شراكات قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. تعكس هذه العلاقة قدرتها على اتخاذ مواقف متوازنة تحمي سيادتها وتضمن مصالحها القومية. وفي عالم يمر بتغيرات جذرية، تبقى الجزائر قادرة على لعب دور الجسر بين القوى الكبرى وأفريقيا، وتقديم نموذج للشراكة القائمة على التاريخ والمصالح المشتركة، دون التورط في النزاعات التي تعيق التنمية والتقدم.
لتحليل معمق لهذا الموضوع، يمكنكم الاستماع إلى هذا البودكاست من الصحفي حفكوف عبر الرابط:
.Hope&ChaDia