لقد خطت الجزائر خطوات كبيرة في رحلتها نحو الاكتفاء الذاتي الزراعي، حيث أظهرت زخماً ملحوظاً بفضل الاستثمارات الاستراتيجية والسياسات الزراعية المبتكرة والتعاون الدولي. تعكس التطورات الأخيرة والإنجازات التاريخية التزام البلاد القوي بتعزيز الأمن الغذائي وتقليل الاعتماد على الأسواق العالمية.
الاستثمارات الاستراتيجية والتعاون الدولي
من أبرز التطورات الأخيرة توقيع اتفاقية بقيمة 420 مليون يورو (455 مليون دولار) بين الجزائر وإيطاليا لمشروع زراعي كبير في ولاية تيميمون. يهدف هذا المشروع، الذي يغطي 36,000 هكتار (89,000 فدان)، إلى إنتاج القمح والعدس والفاصوليا، من بين محاصيل أخرى. ومن المتوقع أن يخلق هذا المشروع 6,700 فرصة عمل ويعزز صادرات الجزائر غير الهيدروكربونية. وقد أشاد المسؤولون الإيطاليون بهذه المبادرة باعتبارها أكبر استثمار زراعي لبلدهم في منطقة البحر الأبيض المتوسط الجنوبية، وهي تتماشى مع أهداف “خطة ماتيي” لرئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، التي تعزز التعاون غير الاستغلالي بين أوروبا وأفريقيا.
تأتي هذه الاتفاقية بعد صفقة كبيرة بقيمة 3.5 مليار دولار مع أكبر منتج للألبان في قطر، بلدنا، لإنشاء منشأة واسعة لتربية الأبقار لإنتاج الحليب المجفف. هذه التعاونات الدولية هي جزء من استراتيجية الجزائر لتوسيع مناطق الإنتاج الزراعي في الجنوب الصحراوي إلى 500,000 هكتار.
الإنجازات المحلية والمساهمات
يعد القطاع الزراعي في الجزائر جزءًا حيويًا من اقتصادها، حيث يساهم بنسبة 18% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يعادل أكثر من 4747 مليار دينار جزائري (35 مليار دولار أمريكي). وفقًا لوزير الزراعة والتنمية الريفية، يوسف شرفة، فإن القطاع يوظف أكثر من ربع القوة العاملة الوطنية، ما مجموعه 2.7 مليون عامل، ويضمن تغطية 75% من احتياجات البلاد الغذائية.
ولم تمر جهود البلاد في الزراعة دون أن تُلاحظ. فقد صنف برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة الجزائر كأول دولة أفريقية في مجال الأمن الغذائي، مشيرًا إلى أن نسبة الأشخاص الذين يعانون من نقص التغذية كانت أقل من 2.5% من إجمالي السكان بين عامي 2018-2020. هذا الإنجاز يضع الجزائر على قدم المساواة مع الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة وكندا والعديد من الدول الأوروبية.
الزراعة الصحراوية
كجزء من استراتيجيتها الزراعية، شرعت الجزائر في استصلاح الصحراء وزراعتها. فاليوم، أصبحت مئات الآلاف من الهكتارات من الأراضي نشطة اقتصاديًا في الصحراء الجزائرية. في غضون بضعة عقود، تحولت هذه الكثبان الرملية إلى حدائق خضروات جديدة. وقد كان هذا التحول نقلة نوعية لمنطقة الوادي، التي أصبحت واحدة من أهم منتجي الخضروات في البلاد.
تستفيد الجزائر من الشمس المشرقة على مدار العام، مما يتيح للمزارعين إنتاج البطاطس والطماطم والفول السوداني والبصل خارج الموسم. ومع استخدام التكنولوجيا المتقدمة، يتم ري الأراضي عبر رشاشات حديثة تسحب المياه من الطبقات الجوفية، وتخلق الأغصان النخيلية على الحدود نوعًا من المناخ الصغير داخل المزارع.
تقريبًا جميع المزارع هنا متصلة بالكهرباء. يستخدمون تقنيات حديثة توفر المياه لحفظ الطبقة المائية الجوفية. نادرًا ما تستخدم المبيدات الحشرية، مما يعزز الزراعة المستدامة.
السياق التاريخي والرؤية طويلة الأجل
منذ الاستقلال، وضعت الجزائر الزراعة في قلب سياساتها التنموية الوطنية. كانت “الثورة الزراعية” التي أطلقها الرئيس الراحل هواري بومدين في السبعينيات تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليل البطالة من خلال تحديث المزارع ومكافحة التصحر عبر بناء السد الأخضر. وقد أثمرت هذه الجهود بشكل كبير في تزويد السوق المحلي وتقليل الاعتماد على الأسواق العالمية.
في عام 2020، ورغم الأزمة الاقتصادية الناجمة عن جائحة كورونا، أظهر القطاع الزراعي الجزائري مرونة قوية، حيث بلغ قيمة الإنتاج حوالي 3500 مليار دينار جزائري، ما يمثل أكثر من 14% من الناتج المحلي الإجمالي الوطني. اليوم، يلبى القطاع أكثر من 73% من احتياجات السوق المحلية، مع فائض للتصدير.
التنمية المستدامة وآفاق المستقبل
تؤكد السياسة الزراعية للجزائر للفترة 2020-2024، كما هو موضح في برنامج عمل الحكومة، على التنمية المستدامة. تشمل هذه السياسة إضافة النباتات الزيتية مثل الكلوى وفول الصويا إلى قائمة الصناعات الاستراتيجية بهدف تلبية 25% من الاحتياجات الوطنية لزيت الكلوى و33% من الاحتياجات الوطنية للذرة بحلول عام 2024. يلعب مكتب تطوير الزراعة الصناعية في الصحراء (ODAS) دورًا حاسمًا في دعم المشاريع في المناطق الجنوبية من البلاد.
بالإضافة إلى ذلك، يعد الترويج للاقتصاد الأخضر والإدارة الرشيدة للموارد الطبيعية من الجوانب الأساسية للنموذج الزراعي الجديد. تم تطبيق نظام الري بالرش والتنقيط في حوالي 939,200 هكتار، ما يمثل 64% من إجمالي المساحة المروية. كما تم دمج الطاقة المتجددة في المزارع، خاصة في الهضاب العليا والسهوب والمناطق الجنوبية للبلاد.
تشكل الغابات جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية الجزائر الزراعية، حيث تسهم في تنويع الاقتصاد وتحسين دخل السكان الريفيين من خلال إنشاء “وظائف خضراء”. وقد أطلقت الدولة برنامجًا واسعًا لتطوير الأنواع المقاومة.
خاتمة
يسير القطاع الزراعي الجزائري، بفضل الاستثمارات الاستراتيجية والسياسات المبتكرة والتعاون الدولي، نحو الاكتفاء الذاتي. إن إنجازات البلاد في مجال الأمن الغذائي والتنمية المستدامة تؤكد إمكاناتها في تلبية احتياجاتها الخاصة والمساهمة بشكل كبير في المشهد الزراعي العالمي. ومع استمرار الجهود والتخطيط الاستراتيجي، تمضي الجزائر بثبات نحو أن تصبح نموذجًا للنجاح الزراعي والاستدامة.