مدينة عنابة
عنابة مدينة ذات تاريخ ديني راسخ احتضنت في القديم دعوة القديس أوغسطين، وفي العصر الإسلامي الفقيه المالكي أبو مروان البوني الذي كان له الفضل في عودة المدينة وسكانها إلى المذهب المالكي.
توطئة
تُعّد مدينة عنَّابة من أكبر وأشهر المدن في شمال شرقي الجزائر التي تطل على البحر المتوسط، وتقع بالقرب من الحدود التونسية، وهي مدينة محصنة بالجبال، وغنية بالثروات المعدنية وآبار المياه العذبة، وقد ساعد ذلك على استيطان الانسان فيها منذ أزمنة غابرة.
بلد العناب
يعتقد المؤرخون أن المدينة أصبحت تعرف باسم «عنابة» وذلك منذ أن استوطنتها القبائل العربية الهلالية بدايات القرن السادس الهجري، فقد أطلقوا عليها اسم عنابة أو بلد العناب لما وجدوه فيها من أشجار العناب (النبق) التي تنتشر فيها بكثرة، وصارت تذكر في المصادر العربية باسم «عناب» و«عنابة».
مساحات خضراء واسعة تتمتع بها المدينة
تأسيس مدينة عنابة
يعود تأسيس مدينة عنابة إلى ما قبل الميلاد، فقد أقام الفينيقيون فيها مرفأ صغيرا حوالي القرن 12ق.م، وسميت حينها «هيبون» أو «بونة» ومعناه الخليج، لكن تاريخ تطورها كمدينة كان في عصر المملكة النوميدية التي ازدهرت في القرن 3ق.م، حيث كانت عنابة واحدة من مدنها الرئيسية خاصة لقربها من عاصمتهم قرطا (قسنطينة)، ووقوعها على الطريق المؤدي إلى قرطاج (تونس).
ويبدو أن عنابة قد حظيت باهتمام ملوك نوميديا لكونها مدينة بحرية؛ فجعلوا منها مدينة ملكية تختص بها الأسرة الحاكمة لقضاء أوقات الراحة والاستجمام، وأطلقوا عليها اسم «هيبورجيوس» Heporijios أي «بونة الملكية»، واحتفظت عنابة بشيء من هذه المكانة لدى الدول والممالك التي تعاقبت عليها عبر تاريخها.
الرومان في عنابة
خضعت عنابة كغيرها من مدن شمال أفريقيا للاحتلال الروماني منذ القرن الأول ق.م وحتى القرن الخامس الميلادي، وخلال هذه الفترة الطويلة كانت عنابة نموذجاً للمدينة الحضارية الرومانية في شمال أفريقيا، وذلك على عكس أغلب المدن الأخرى التي كانت ذات طابع عسكري؛ فاحتوت على مختلف المرافق الحضرية والاجتماعية بداية من الفوروم، وهي الساحة العمومية التي تعد قلب المدينة، وإلى المسرح والحمامات والسوق ومعبد الآلهة جوبيتر.
كنيسة في عنابة
بتبني الإمبراطورية الرومانية للديانة المسيحية تأسست أول كنيسة بمدينة عنابة حوالي منتصف القرن الثالث الميلادي، ولأنها كانت مرتبطة بكنسية روما فقد أصابها ما أصاب العالم المسيحي من خلافات مذهبية وعقائدية، وسقط أول أساقفتها ضحية هذا الصراع عام 259م، حيث انتقلت إليها الحركة الدوناتية (نسبة الى القديس دوناتوس)، وأحرزت انتشارًا كبيرًا حتى كاد المذهب الكاثوليكي ينحصر ويختفي إلى أن جاء القديس أوغسطين الذي تمكن من إعادة الاعتبار له مرة أخرى.
القديس أوغسطين
ولد القديس أوغسطين Saint Augustin في مدينة تاغاست التابعة لمدينة عنابة 354 ميلاديًا، وتربى وتعلم بها ثم رحل إلى قرطاج ومنها إلى روما ليكمل تعليمه بهما، وهناك ظهرت ميوله إلى اللّاهوت والفلسفة، فألَّف فيهما العديد من الكتب، وعندما عاد إلى عنابة اشتغل مساعدًا لأسقف كنيستها.
وكان أوغسطين من أشد المؤمنين بالمذهب الكاثوليكي، لذا؛ عزم على استرداد مكانته في مدينة عنابة وضواحيها وذلك بعد أن تفشى المذهب الدوناتي بين سكانها، وبعد صراعات وحروب خاضها تمكن من كسر شوكة الدوناتيين، وإعادة الهيمنة للكاثوليكية إلى ما كانت عليه، وبسبب ذلك ارتقى إلى مرتبة «القديس»، وظلت المدينة تشتهر به، وتنسب إليه حتى فترات لاحقة؛ فنجد الرحالة الأندلسي البكري في القرن 5هـ ينسب المدينة إليه بقوله: «مدينة أوغستين العالم بدين النصرانية».
الفتح الإسلامي لعنابة
فُتحت مدينة عنابة سنة 78هجرية على يد «حسان بن النعمان» أحد قادة الفتح الإسلامي لبلاد المغرب، الذي تمكن من فتحها سلمًا؛ لبعدها عن مسرح المعارك والصراعات، لذا أسلم سكانها الذي ينتمي أغلبهم إلى قبائل مصمودة وأوربة البربريتين.
وبعد انفصال المغرب الإسلامي عن الخلافة العباسية؛ اتبعت عنابة دولة الأغالبة في تونس إلى أن جاءها الفاطميون الذين جعلوا منها مدينة ذات أهمية تجارية ونشاط بحري كبير.
مدينة زاوي
كانت أزهى العصور التي مرت بها عنابة على عهد «زاوي بن زيري بن مناد» الذي أخذها منحة من ابن أخيه المعز بن باديس (398-454هـ) أحد أهم أمراء الدولة الزيرية، الذين خلفوا الفاطميين.
فأعاد زاوي بناءها وجعل منها مدينة كبيرة وعامرة حتى أصبحت أشبه بإمارة تتمتع بكيان شبه مستقل، فقصدها التجار والعلماء من جميع بقاع المغرب والأندلس، وازدهرت المدينة على يديه حتى نسبت إليه وعرفت لعصور عدة باسم «مدينة زاوي».
الموحدون يحررون عنابة
تعرضت عنابة لغزو نورمان صقلية عام 458هـ، فبسط ملكهم روجار سلطته عليها لمدة من الزمن عاشت خلالها المدينة مراحل من الوهن والتراجع، إلى أن تمكن الموحدون من السيطرة عليها عام 552هـ، وطرد النورمان منها، وعليه، فقد عاد للمدينة رونقها ونشاطها كقاعدة تجارية بحرية خاصة مع امتلاك الموحدين لأقوى أسطول بحري في المنطقة، فدفع ذلك الجمهوريات الأوروبية عامة، والإيطالية خاصة إلى التحول من العلاقات العسكرية إلى العلاقات التجارية مع المدينة ومع دولة الموحدين.
خلال العهد الحفصي
استولى الحفصيون على مدينة عنابة من الموحدين؛ فاهتموا بها كثيرًا، حتى أن حكامها كانوا من الأسرة الملكية، وإن دل هذا على شيئ؛ فإنما يدل على مكانتها الممتازة وأهميتها لدى السلاطين الحفصيين.
وخلال هذه الفترة؛ كانت عنابة همزة وصل مع الزيانيين بتلمسان والمرينيين بمراكش، فضلاً عن كون ميناءها محطة تجارية هامة مع الدول والممالك الأوروبية.
عنابة في العهد العثماني
لما كانت عنابة تابعة للحكم الحفصي؛ فإن مصيرها ظل لفترة مرتبطًا بتونس التي تحالف سلطانها أبو الحسن الحفصي مع الأسبان، وبموجب هذا التحالف؛ قام شارلكان باحتلال المدينة عام 1535م، لكن الوجود العثماني بالجزائر حال دون استمرار هذا الاحتلال، فبعد خمس سنوات أمضتهم الحامية الإسبانية بعنابة -عانت خلالها الفوضى والتمزق- انسحبت بأمر من شارلكان عام 1540م، فقام خير الدين بربروس بضمها للجزائر، واستمرت المدينة خلال العهد العثماني مركزا تجاريًا نشطًا، واعتبر منفذًا بحريًا أساسيًا لبايليك (مقاطعة) الشرق وعاصمته قسنطينة.
الوكالة الافريقية :–
خلال العهد العثماني؛ جرى إنشاء فرع للشركة الفرنسية المسماة «الوكالة الافريقية» بمدينة عنابة بموجب الامتيازات التي حصلت عليها فرنسا في البلاد.
وفي عام 1825م؛ قدم إلى هذا الفرع «الكسندر دوفال» ابن أخ «بيار دوفال» القنصل العام بالجزائر الذي ارتبط اسمه في التاريخ «بحادثة المروحة» التي كانت سببًا في احتلال فرنسا للجزائر، فقد قام الكسندر هذا بإثارة العديد من المشاكل في الشركة، وكان يتصرف بمطلق الحرية بل وخارج إطار صلاحيات وظيفته بدعم من عمه، حتى أنه أنشأ مليشيات عسكرية لحماية الشركة من القبائل المجاورة، وأدت هذه المشاكل إلى تعقيد الوضع أكثر بين «الداي حسين» وفرنسا التي كانت تبحث عن ذريعة لإعلان الحملة على الجزائر عام 1830م.
عنابة تحت الاحتلال الفرنسي
كانت عنابة من بين المدن الأولى التي سقطت في يد الاحتلال الفرنسي فقد تم احتلالها عام 1830م، لكن استكمال احتلال المنطقة وإخضاع ضواحيها لم يتم حتى الخمسينات، فقد واجه الفرنسيون مقاومة شديدة من قادة الثورات الشعبية هناك نذكر منهم: الشيخ الحسناوي، وأحمد بن شعيب، وابن العربي وغيرهم من الأبطال.
وكغيرها من المدن الجزائرية؛ شهدت المدينة اندلاع ثورة التحرير في الفاتح من نوفمبر 1954م، وتم إدراجها ضمن الولاية الثانية (الشمال القنسطيني)، وقدمت عائلاتها الكثير من الشهداء الأبطال الذين سجلهم التاريخ، إلى أن نالت الجزائر استقلالها في 5 جويلية 1962م، وانطلقت عنابة في معركة البناء وهي اليوم من أجمل وأكبر المدن الجزائرية.
مدينة غنية بالمعادن
تُعد مدينة عنَّابة من المناطق الغنية بالمعادن وبخاصة الحديد، فوصف الرحالة الشهير ابن حوقل (943- 988م) ذلك قائلًا: «وبها معادن من حديد كثيرة ويحمل منها إلى الأقطار الغزير الكثيرة»، ومازالت عنابة تعرف بمعدن الحديد إلى اليوم، حيث يوجد بها أكبر مصنع للحديد والصلب في الجزائر الذي أنشأ بعد الاستقلال.
واشتهرت عنابة كذلك بالمرجان ذو النوعية الممتازة، خاصة بمرسى الخرز كما يذكر الرحالة والجغرافي الإدريسي (1099-1160 م) ذلك بالقول: «وعمارة أهلها على صيد المرجان، والمرجان يوجد بها كثيرًا، وهو أجل جميع المرجان الموجود بسائر الأقطار مثل ما يوجد منه بمدينة سبتة وصقلية».
علماء من عنَّابة
فضلًا عن كون عنَّابة مدينة تجارية وصناعية؛ فقد كانت موطنا للعلماء سواء من أبنائها أو ممن اجتذبتهم بموقعها الاستراتيجي، والحياة الآمنة والهادئة بها.
لعل من أشهر علماءها: الفقيه المالكي «أبو عبد الملك مروان بن محمد الأسدي البوني» (ت501هـ) الذي يقول عنه المؤرخ «مهدي البوعبدلي»: أنه اشتهرت به عنابة كما اشتهرت في السابق بالقديس أوغسطين، قدم من الأندلس واستقر بالمدينة وكان له دور كبير في ترسيخ المذهب المالكي بها، والشيخ أحمد ساسي البوني (1063-1139هـ)، فقيه ومؤرخ وهو صاحب منظومة «الدرة المصونة في علماء وصلحاء بونة»، والمفتي محمد بن حسين المعروف بابن العنابي أو بالعنابي (1189- 1267هـ) رائد التجديد الإسلامي، وغيرهم كثير.