نقله إلى العربية: Hope&ChaDia
نُشر بتاريخ 9 ماي 2025
في تاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر، كانت من أكثر الاستراتيجيات ثباتًا – وخبثًا – استراتيجية “فرّق تسُد”. فمنذ السنوات الأولى للاحتلال، أدركت السلطات الفرنسية أن سيطرتها لا تمر فقط عبر العنف العسكري، بل عبر استغلال الانقسامات الداخلية في المجتمع الجزائري: فتم تضخيم الفروقات الإقليمية، واللغوية، والدينية، والاجتماعية، وأحيانًا اختُرعت من لا شيء. ومن أبرز هذه الانقسامات: الانقسام بين أنصار الأمير عبد القادر وثورة الشيخ المقراني سنة 1871.
يقترح هذا المقال قراءة موسعة لهذه الانقسامات، ليس باعتبارها حقائق طبيعية، بل كبناءات استعمارية صُمّمت لاستهداف المقاومة، وتفتيت المجتمع، وتبرير الاحتلال طويل الأمد. كما يسلط الضوء على الآثار التي تركتها هذه الانقسامات في الذاكرة الوطنية المعاصرة.
مقاومتان، منطقتان، قراءتان للتاريخ
يُعد الأمير عبد القادر (1808–1883)، مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة في الغرب بين 1832 و1847، من الرموز المركزية للمقاومة المنظمة ضد الاستعمار. رجل دولة، مفكر متصوف، وقائد عسكري بارع، قاوم الجيش الفرنسي بشراسة قبل أن يسلم نفسه لتفادي المزيد من المجازر. نال احترام الخصوم والحلفاء على السواء، واحتفظ بمكانته الرمزية حتى بعد نفيه إلى دمشق.
أما ثورة سنة 1871 بقيادة الشيخ المقراني والشيخ الحداد (رئيس الطريقة الرحمانية)، فكانت انتفاضة شعبية كبرى شارك فيها أكثر من ثلث سكان البلاد، خصوصًا في منطقة القبائل الشرقية. وقد تم قمعها بوحشية، ما أدى إلى التهجير ومصادرة الأراضي وتهميش العديد من القبائل. وعلى عكس عبد القادر، لم يكن المقراني يسعى لبناء دولة منظمة، بل رد فعل مباشر على الظلم الاستعماري واستفزازات الإدارة الفرنسية، خاصة بعد هزيمة فرنسا أمام بروسيا سنة 1870.
السياق السياسي: أدولف كريمييه وبوادر الثورة
سقوط الإمبراطورية الثانية وهزيمة فرنسا عسكريًا أدى إلى بروز سلطة جديدة جمهورية متطرفة تُعرف باسم “حكومة الدفاع الوطني”، وكان من بين أعضائها شخصيات بارزة، أبرزهم أدولف كريمييه، وزير العدل. في 24 أكتوبر 1870، أصدر كريمييه مرسومًا يمنح اليهود الجزائريين الجنسية الفرنسية الكاملة.
رغم أن هذا المرسوم شكّل تقدمًا لفئة محدودة، إلا أنه اعتُبر من قبل النخب المسلمة ظلمًا فادحًا، إذ بقي المسلمون تحت نظام الأهالي (قانون الأهالي) دون جنسية، محرومين من الامتيازات القانونية والسياسية. في وقت كانت السلطات التقليدية تُجرد من سلطاتها ورواتبها، اعتُبر هذا المرسوم إشارة واضحة للإقصاء والتهميش.
رغم أن كريمييه لم يكن صهيونيًا – إذ لم تكن الصهيونية كحركة سياسية قد تشكلت بعد – إلا أنه أسس “التحالف الإسرائيلي العالمي” سنة 1860، وهي منظمة هدفها تعليم اليهود ودمجهم في مجتمعاتهم الوطنية. ورغم طابعها الجمهوري، فقد ساهمت لاحقًا في نشر الثقافة الغربية اليهودية، ومهّدت لبعض التيارات الصهيونية في المشرق والمغرب.
كان كريمييه مؤمنًا بالاندماج الكامل لليهود داخل الجمهورية الفرنسية. غير أن هذا التفريق في سياق استعماري ولّد استياءً متفاقمًا، وعمّق الهوة بين المستعمِرين والمستعمَرين. وقد أكد مؤرخون أمثال لويس ران وجول لوريل، منذ أواخر القرن التاسع عشر، أن مرسوم كريمييه كان أحد العوامل المباشرة لانطلاق ثورة المقراني. فقد رأى فيه المسلمون “ترقية” قانونية حصرية لليهود، في لحظة انكسار سياسي لهم، مما أجج شعورًا بالغضب وتغذّى من قرارات أخرى كإلغاء الرواتب وتهميش الزعامات المحلية.
إدانة مشكوك فيها نُسبت لعبد القادر
الجدل حول مزعوم رفض الأمير عبد القادر لثورة المقراني يكشف بوضوح حجم التلاعب الاستعماري. إذ نُشرت في القرن التاسع عشر رسائل نُسبت لعبد القادر، يقال إنه وصف فيها المقاومين القبائل بـ”الخونة”، بل ودعا الله أن ينزل عليهم غضبه.
لكن هذه الوثائق مشكوك في صحتها بشدة. الباحث برونو إتيان، في سيرته عن الأمير، يشير إلى أن هذه الرسائل لا تحمل أي ختم رسمي، مليئة بالأخطاء اللغوية، وتبنت أسلوبًا هجوميًا لا يتماشى مع شخصية قائد صوفي متزن. كما أنها اختفت من الأرشيفات الفرنسية، مما يعزز فرضية التزوير لأغراض دعائية.
فرانسوا بوليون، في دراسة نشرت بمجلة “دفاتر الدراسات الإفريقية”، توصل إلى استنتاج مماثل: غياب مادي للرسائل، أسلوب غير منسجم، ومحتوى كاريكاتوري، كلها مؤشرات على تزييف الغرض منه زرع الفرقة بين العرب والقبائل.
كان الهدف إبعاد العرب في السهول عن دعم المقاومين القبائل، عبر توظيف رمزية دينية لشخصية بحجم عبد القادر لنزع الشرعية عن شكل آخر من المقاومة. والحقيقة، كما يوضح المؤرخ يحيى بوجلال، أنه لا يوجد أي دليل يثبت أن عبد القادر اتخذ موقفًا معاديًا للثورة، خاصة أنه كان وقتها في سوريا بعيدًا عن الساحة الجزائرية. بل تشير عدة شهادات إلى أنه تدخل لدى السلطات التونسية لحماية لاجئي المقراني.
استراتيجية استعمارية ممنهجة: حالة منطقة القبائل
فهمت السلطات الاستعمارية الفرنسية مبكرًا أهمية استغلال الفروقات داخل المجتمع الجزائري. منذ العقود الأولى للاحتلال، اعتمدت سياسة التفكيك الاجتماعي لترسيخ السيطرة، عبر خطاب تفرقي يخلق عداءً وهميًا بين المجموعات.
ومن أبرز الأمثلة، السكان القبائل. ففرنسا، خصوصًا من خلال “مكاتب الشؤون العربية”، نسجت خطابًا يُضخم من قيم معينة لدى القبائل – مثل الديمقراطية القروية، حب الحرية، الزراعة، والروابط العائلية – مقابل تصوير العرب في السهول كمتخلفين، رحل، خاضعين للمَرَابِطِين.
هذا الخطاب المعروف بـ”الأسطورة القبائلية” لا ينكر وجود ثقافة قبائلية غنية، بل يستغلها لأغراض استعمارية. الهدف لم يكن الاعتراف، بل التفريق: خلق “قبائلي جيد” قابل للاندماج، و”عربي سيئ” مقاوم، لتسهيل التوغل الاستعماري.
كما أشار مؤرخون مثل شارل روبرت آجيرون، محفوظ قداش، وبنجامين ستورا، فقد كان لهذا الخطاب أثر طويل الأمد على السياسات التعليمية والعسكرية الفرنسية في الجزائر. وخلّف أيضًا شكوكًا متبادلة لا تزال آثارها في الذاكرة الجماعية. هذه السياسة لم تعكس واقع الشعب الجزائري، بل كانت أداة استعمارية بحتة للتقسيم والهيمنة.
ما ليس هو “الأسطورة القبائلية”
مصطلح “الأسطورة القبائلية” لا يُنكر وجود وهوية الثقافة القبائلية.
بل ينتقد كيف صاغت فرنسا صورة نمطية مبالغ فيها عن القبائل – كأنهم علمانيون، ديمقراطيون، متقدمون – فقط لتوظيفهم ضد باقي مكونات الشعب. لم يكن هدفها أبدًا احترامهم، بل استخدامهم كأداة في استراتيجية الانقسام.
إرث وانقسامات في الذاكرة الوطنية
لم تكفِ الاستقلالية سنة 1962 لمحو هذه الشروخ. فبينما يُحتفى بالأمير عبد القادر كرمز وطني، بقيت ذكرى المقراني مهمشة إلى أن تم إحياؤها في الثمانينات كمثال للمقاومة الشعبية. وتبقى منطقة القبائل منطقة ذات وعي سياسي قوي، لعبت دورًا محوريًا في ثورة التحرير، لكنها أيضًا كثيرًا ما عانت من سوء الفهم من قِبل السلطة المركزية.
البلويّتة الأصلية (أو الخطة الزرقاء)
رأيي: الاعتراف بهذه المناورة لا يعني إنكار الفروقات داخل الوطن، بل هو محاولة للمصالحة الوطنية على أساس مشروع مشترك يرفض رواسب القهر.
واللافت أن ثورة المقراني اندلعت في نفس اللحظة التي كانت تُبنى فيها جمهورية فرنسية جديدة – بقيادة كريمييه – ترسّخ نظامًا استعماريًا يُقصي المسلمين ويؤسس لانقسام طائفي. هذه المصادفة التاريخية بين تمرد شعبي ومرسوم تحرري مُفرّق تستحق التأمل.
فماذا لو لم يكن نفي عبد القادر لثورة القبائل مجرد تلفيق استعماري؟ بل أول محاولة مبكرة لـ”بلويّتة” داخلية؟ محاولة زرع الشك والانقسام والريبة في قلب المقاومة الجزائرية؟
المراجع
برونو إتيان، عبد القادر، برزخ البرزخات، دار السوي، 1994.
شارل روبرت آجيرون، المسلمون الجزائريون وفرنسا (1871–1919)، منشورات PUF، 1973.
بنجامين ستورا، الغرغرينا والنسيان، دار لا ديكوفرت، 2004.
محفوظ قداش، الأمير عبد القادر والمقاومة الجزائرية، دار SNED، 1980.
فرانسوا بوليون، «عن الشهادة: حول بعض صور عبد القادر في الشرق»، دفاتر الدراسات الإفريقية، العدد 165، 2002.
باتريشيا لورسين، الهويات الإمبراطورية: الصور النمطية والتحامل والعرق في الجزائر الاستعمارية، I.B. Tauris، 1995.
لويس ران، تاريخ ثورة 1871 في الجزائر، دار باستيد، 1884.
صادق سلام، فرنسا ومسلموها: قرن من السياسة الإسلامية (1895–2005)، دار فايار، 1999.