بقلم المؤرخ فوزي سعد الله
346
الكثير من العبارات والصيغ اللغوية التي نتحدث بها اليوم في العربية الفصحى كما في العربية العامية في بلادنا وُجدت في الجزائر كما في تونس وليبيا وحتى في المغرب منذ قرون سابقة للفتح الإسلامي.
لكن، لا نعرف بدقة، أو أنا على الأقل، إن كان وجودها اليوم على ألسنتنا من مؤثرات الحقبة الإسلامية أم من المؤثرات الفينيقية/القرطاجية. وهذا يستدعي البحث والاسيتقصاء بعمق في الأوساط المتخصصة التي، بشكل عام، تركت تساؤلات ونقاشات وجدالات الجزائريين حتى الآن بدون جواب…
عن “جَوَّة” والأمومة والكهنة والأخوة…
نعرف مثلا أن كلمة “جوّة”، التي تعني “داخل” الشيء أو “في جوف” الشيء، الشائعة في شرق الجزائر وفي تونس وغرب ليبيا، على الأقل، وهي كلها شكلت المجال الجغرافي/الثقافي لدولة قرطاجة البونية الفينيقية ابتداءً من حوالي 8 قرون ق. م.، لها امتداد تاريخي سابق للمرحلة الإسلامية، لأنها عُرفتْ واستُخدمتْ في العهد الفينيقي/البوني مثلما تؤكده النّقوش الأثرية في هذه المنطقة. فنقول “ب ج و”، عِلمًا أن حروف الكلمات في الفينيقية/البونية تُكتَب منفصلة وليس كما هي الكتابة في اللغة العربية اليوم، بمعنى: بْجَوَّة، أي “في الداخل، في الوسط” على حد تعبير الباحث الخبير الليبي في اللسانيات وفي اللغة الفينيقية/البونية تحديدًا الدكتور عبد الحفيظ فضيل الميار في كتابه ” المدخل إلى قواعد اللغة الفينيقية-البونية “.
وقال أجدادنا الفينيقيون/البونيون لكلمة “أخُ ” العربية “أ ح و” (أيْ أَحُو في حال ربطنا الحروف ببعضها كما في الكتابة العربية) مع إحلال حرف “ح” محل حرف “خ” وهذا كان يحدث في الاتجاهين عند الفينيقيين/البونيين بإحلال الخاء أيضا محل الحاء…
وقالوا ” أ ح ت”(أي أُحْتْ) لـ : أُخْت، و “أ ك ه ن” (أي أَكَهِِنْ) لـ: الكَاهِن، و”أ ك ل ت” (أي أكْلَتْ) لِلْـ “أُكْلَة”، و”أ م” (أيْ أم) لـ: أُمّ بمعنى الوالدة…
كلمات متداوَلة إلى اليوم في منطقة جرجرة وبجاية…
لكنهم قالوا أيضا “أ ن ك” (أيْ أنَكْ) و”أ ل ك” (أيْ أَلَكْ) للضمير المتكلم المفرد: أنا، بالضبط كما يُقال اليوم بلسان زواوة في جرجرة وبجاية وربما في جهات أخرى من الجزائر…
كذلك، يضيف الباحث الليبي، أن كلمة “أ د ر” البونية تعني “عظيم، قوي، كامل، رئيس”، على حد تعبيره، و”أ د ر ت” هي العظَمة.
أما إذا اقترنت “أدر” مع كلمة “بعل” (التي تعني في لسان الفينيقيين/البونيين إله أو سَيّد) لتصبح “أ د ر ب ع ل” (أي “أدر بعل) فإن المعنى يصبح “بَعْل العظيم” وأيضا السيّد العظيم…
غير أن ما لا يجب إغفاله هو أن “أدر” البونية تحوَّلت لاحقًا عند البونيين ذاتهم إلى “إدِر”، حسب عبد الحفيظ المِيَّار، والتي، من وجهة نظري، يُمكِنُ أن تكون هي ذاتها الاسم “إيدير” المعروف اليوم في ما نُسمِّيه اللغةَ البربرية أو الأمازيغية…
الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد كان يقول “نَحْنَ” وليس “نَحْنُ”…لماذا…؟
عندما كان الرئيس الجزائري الأسبق المرحوم الشاذلي بن جديد يقول “نَحْنَ” وليس “نَحْنُ”، ربما هذه الصيغة في نطق ضمير المتكلم بصيغة الجمع تعود إلى الماضي الفينيقي/البونيقي للمنطقة الشمالية الشرقية من الجزائر المحاذية للحدود مع تونس، والتي ينحدر منها الشاذلي بن جديد، حيث كان أهلها يقولون في العهد القرطاجي باللسان الفينيقي/البونيقي “أ ن ح ن” (أيْ أنحن) للتعبير عن: نحن العربية. وربما حتى “أحْنَا” في مدينة الجزائر وجهات كثيرة من البلاد قد تكون من ذرية “أنحن” القرطاجية البونية/الفينيقية. وهذا، طبعًا، يتطلب تدقيق الخبراء لتوضيحه…
أما التمر فكان عندهم “ت م ر” مثلما قيل للملح ” م ل ح” وللبصل “ب ص ل”… وقالوا أيضا “ف ع ل ت” للتعبير عن فِعليْ “عَمَلْتُ (و Ndlr) صَنَعْتُ” على حد تعبير فضيل الميّار. وعبَّروا بـ: “ك ت ب ت” عن “كَتَبْتُ” العربية، وقالوا “ح ش ب ت” لـ “حَسبْتُ” العربية” بإحلال حرف الشين محل السين…
عن الأعداد…الـ: 1000…والـ: 4…والـ: 40… وعن الآبار والبطون…
وقال الفينيقيون/البونيون أيضًا ” أ ل ف” (أيْ ألف) للعدد 1000. و” أ ر ب ع” (أيْ أربع إذا ربطنا الأحرف ببعضها) لـلعدد: أربع (4) العربي الذي نعرف اليوم. و “أ ر ب ع م” (أي أربعم) لـ: أربعون (40).
هل تعرفون كيف كانوا يقولون كلمة بِئْر…؟ بكل بساطة: “ب أ ر”. أما للبطن فكانوا يقولون ” ب ط ن”، وللبيت “ب ي ت” وأيضا ” ب ت” عندما يحدث أن يُسقِطوا الياء، و”ب ن” للكلمة العربية: ابن…
كذلك، “ق ر أ ت” البونية كانت تُستخدَم لـ “قَرَأتُ” العربية وبشكل خاص لـ “توسلتُ” و”ناشدتُ” مع التذكير بأن القراءة في تلك العهود البعيدة كانت مقتصرة على قلة من كَهَنة المعابد، بشكل خاصّ، ومُقترِنة بالدين طقوس المعبد وابتهالاته. وقيل أيضا في البونية “ب ر ك ت” لـ”باركْتُ” العربية وأيضا “ب ر ك ت” للبركة.
وإذا تحدث الفينيقي/البوني، يَعني الليبي/التونسي/الجزائري بلغة وجغرافية اليوم السياسية، عن مواطن ابن بلده يقول ” ب ن ع م” (أيْ بن عم إذا ربطنا الأحرف). لكن لا أدري إن كان المقصود هو ابن العَمّ أم شيء آخر. أقول هذا، لأننا في الجزائر إلى اليوم نقول للمتعصبين لإقليمهم أو قبيلتهم إنهم “بن عَمِّيسْتْ” مع العلم أن السين والتاء في آخر الكلمة مستعارة من اللغة الفرنسية… ولا يجب أن ننسى أننا نقول أيضا لليهود “أبناء العم”…
في إحدى النقائش البونية في ليبيا، في منطقة زليتن تحديدا، وُجدت بحروف لاتينية كلمة Lybythem، وهي تعني، حسب الباحث عبد الحفيظ فضيل الميار، “لأسرتهم”، ومن وجهة نظري قد تعني أيضا “لِبَيْتِهم” كما هو واضح من صيغتها اللاتينية، لأن إلى اليوم ما زلنا نقول لـ: أُسْرَتِنَا في الجزائر “دَارْنا” حيث الدّار والبيت تعنيان أيضا مجازيًا العائلة.
ويضيف فضيل الميار بأن في البونية المكتوبة باللاتينية خلال فترة الاحتلال الروماني بعد سقوط قرطاجة سنة 146 ق.م.، كما جرى لنا بعد الاحتلال الفرنسي سنة 1830م، قيل لـ “أبوهم” ABUHOM، وللعُرس، الذي ننطقه في العامية العربية بالجزائر بفتح العين، ARS… واللاتينية لا تتوفر على حرف العين (ع)…
وما دامت القائمة طويلة، نكتفي بإضافة أن عندما نقول في الجزائر وتونس والمغرب وحتى ليبيا “بل” بدلا من “بن”، بمعنى “ابن”، كالقول: “بلعربي” محل “بن العربي” فهذا ليس بالضرورة تكسيرا للغة العربية الفصحى كما وصلتنا بعد الفتوحات الإسلامية، وإنما قد يكون ذلك التقليد اللساني القديم الذي شاع عند أهل المنطقة بإحلال حرف “ل” محل حرف “ن” منذ الحقبة الفينيقية/البونية، على الأقل، في مملكةقرطاجة وأقاليمها، وربما حتى في المدن/الدويلات التي أسَّسَتْهَا في حوض المتوسط الغربي وبقيَتْ متحالفةً معها ووطيدةَ العلاقة بها…
جذورنا قديمة كما ترون ولساننا ليس أقل قِدمًا تراكمتْ فيه ألسنةُ كُلّ مَن عاش في هذه المنطقة الشمال-إفريقية منذ العصور القديمة على الأقل وفيها المؤثرات الفينيقية وما قبل الفينيقية…
فوزي سعد الله
https://web.facebook.com/fawzi.sadallah