لم يجئْ غلَبُ اليهود علينا صدفة عارضة أو معجزة خارقة أو قدرا قاهرا. كلا، بل جاء نتيجة متسقة مع مقدماتها كما يجيء حاصل الجمع أو باقي الطرح صحيحا في حساب الأرقام. كان العكس -لو وقع- هو الأمر الذي يستحق التساؤل ويحتاج إلى ألف تفسير! وصحيح أن جمهور المسلمين خاض المعركة وهو واثق من كسبها، إنه في طوفان الخطب الرنانة والمقالات الحالمة لم يحسن تقدير شيء مما عند خصومه، بيد أن قوانين الكون لا تلين مع من يجهلها.
هب قرية في الريف تركت الحقول من غير غرس وسقي، ثم اجتمعت في المسجد تبتهل إلى الله أن يمنحها ثمرا طيبا. أو هب جماعة من العزاب ترهبوا وانقطعوا في صوامعهم وطلبوا من الله أن يرزقهم البنين والبنات. إن هؤلاء وأولئك ستنشق حناجرهم بالدعاء ثم تعود أيديهم صفرا.. ولقد أحسست -بعد بلاء طويل- أن ما فاتنا في مضمار الخلق الشخصي والتعاون الجماعي، يشبه ما فاتنا في ميدان العلم المادي ووسائل الكشف والاختراع، والصناعات والإنتاج.
ولندع علماء الحياة في بلادنا يلهثون وراء أساتذتهم في الغرب يقتبسون منهم ويتلقون عنهم، ويحاولون جاهدين أن يرقوا بأوطانهم في نواحي المعرفة وآفاق الحضارة، لندع علماءنا هؤلاء في جهادهم الحميد، ولنرقب يوما تشاد فيه المصانع الخفيفة والثقيلة لتمدنا بحاجتنا الماسة إلى ما يدعم جانبنا في السلم والحرب على سواء، ولتغني فقرنا الفاضح في شئون العمران كلها، ولتضع نهاية قول الشاعر: إن الذين بنى المسلة جدُّهم، لا يحسنون لإبرة تشكيلا!
نعم، لندع هؤلاء في جهادهم! ولنتجه -نحن المربين- إلى ميدان آخر لا نزال نتعثر في ساقته أو مؤخرته بينما ملك غيرنا الطليعة ومضى في سباقه لا يلوي على شيء. يجب أن نصارح أمتنا بأن حصيلتها من أخلاق الحياة الصحيحة وتقاليد الجماعات الموفقة أتفه من حصيلتها من علوم الذرة! وما بنا من عشق للازدراء على أمة نحن منها، يزيننا ما يزينها، ويشيننا ما يشينها! إنما هي رغبتنا في الإصلاح، وفي علاج الأدواء الدفينة، تجعلنا نصيح محذرين أو نلكز النيام موقظين. وخصوصا إذا كان العليل مخدوعا في نفسه لا يجهل علته فحسب بل يحسبها بعض ما أوتي من قوى.. وقديما رأى العلماء أن الجهل المركب أغلظ من الجهل البسيط، وأن الأدعياء -من كل لون- لا يرجى لهم خير.. إن الأمثال تضرب لفساد “الروتين” الحكومي عندنا، وهذه الكلمة غطاء لقصور أو تقصير جمهور الموظفين وتراخيهم المحزن في أداء واجبها. وذهولهم التام عما حملوا من أمانات، وجروا من تبعات. ومسلك كثير من الموظفين يظهر تقطع الأواصر بين الفرد والأمة التي نبت فيها والدولة التي تشرف عليها. وقد تنقلت في إدارات ومصالح شتى فوجدت العيب الأول في الموظف نفسه، لا في النظام المرسوم له مهما كان معقدا، فهو يوم يريد إنجاز أمر يعنيه، يوطئ له الطريق ويسيره بسرعة البرق، وإلا أداره في حلقة مفرغة لا يخرج منها أبدا.. أي أن المشكلة في “الخلق” و”الضمير” قبل كل شيء. ولما كانت أمعاء الدولة داخل هذه الدواوين الراكدة، بين أصابع مديرين وكتبة من هذا الطراز، فلا عجب إذا أزمن فيها المغص وتعفنت فيها حاجات الناس.
ونعدو الأداة الحكومية إلى غيرها من نواحي مجتمعنا الأخرى، فيروعك في القرية وفي المدينة جميعا أن المسلمين صرعى تقاليد بالية وأفكار مريضة. فالغباوة في فهم القدر كسرت الهمم وأقعدت الآمال. والغباوة في فهم التوكل أشاعت الفوضى وأغرت بالكسل. ولما كانت الغرائز الدنيا أقوى من أن تكفها الأخطاء السائدة في فهم الحياة فقد انطلقت تخط لنفسها مجالا بدائيا يسًر ارتكاب الجرائم واقتراب الدنايا حتى بلغ عدد الجنايات عندنا حدا مروعا. وإنك -للنظرة الأولى- تلمح الانهيار والتفكك الغالبين على النفوس مع أن ذلك في حكم القرآن من إمارات الكفران والبعد عن الله ((ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا)). (من كتاب “معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث”).
https://www.echoroukonline.com/