شهدت عاصمة الغرب الجزائري، وهران، محطات تاريخية هامة، وكانت مسرحا للعديد من الأحداث المفصلية.
مرت بها مسيرة النضال من أجل الحرية والسيادة والاستقلال بأشكال شعبية منظمة وغير منظمة، وفي مثل هذه الأيام من عام 1507، وقعت معركة “مسرغين” في السهل الممتد شمالي بحيرة وهران الكبرى، التي انتهت بانتصار المسلمين انتصارا عظيما ضدّ الجيش الإسباني.
مرّت 517 عاما على ملحمة مسرغين البطولية، التي وقعت في 6 جوان 1507م، غير أنّ الباحثين والمهتمين ما يزالون يعتبرونها “من أبرز الأحداث الجزائرية المؤثرة في بناء الوعي الجمعي، وتعزيز قيم التوافق والتماسك والتلاحم في مواجهة الاحتلال والأطماع والمؤامرات، دفاعا عن سيادة أرضهم ووحدتها”، وما تزال المحطة التاريخية في حاجة إلى كثير من البحث والدراسة، تقول رئيسة المكتب الولائي للمنظمة الوطنية لحماية التراث الثقافي والتنمية السياحية، خديجة بن شريف.
شاهد على البطولة
قالت بن شريف، في تصريح لـ«الشعب”: ” إنّ أحداث تاريخ وهران عبر العصور، كثيرة وهامة في الوقت نفسه، لكنّني أكاد أجزم، أنّ السكان الأصليين القدامى والحاليين، يجهلون أغلبها، بل ولا يعرفون جغرافيتها وزمانها وخلفياتها ومكانتها، ولعلّ الذكرى تنفع في زيادة الارتباط بقصص المكان، وأمجاد الماضي التليد من البطولات والمعارك الخالدة التي تركت بصمتها في التاريخ الجزائري، لتكون مصدرا للإلهام وشحذ الهمم للأجيال القادمة”.
واعتبرت المتحدّثة، أنّ معركة “مسرغين”، شكّلت منعرجا حاسما في المسار التاريخي الطويل لاحتلال وهران وتحريرها، لذلك ارتأى المكتب الولائي للمنظمة الوطنية لحماية التراث الثقافي والتنمية السياحية، تنظيم تظاهرة احتفالية يوم 6 جوان المقبل، بالتنسيق والتعاون مع بلديتي مسرغين ووهران، ضمن خطة أعضاء المكتب للتعريف بهذا الحدث التاريخي الهام لوهران، الذي يحمل العديد من الدلالات والمعاني التي ينبغي أن نقف معها للتأمّل والاعتبار، من خلال إقامة ندوة فكرية وزيارة موقع المعركة، وبالضبط الطنف العلوي بالمنطقة المعروفة باسم “كوكا”، التابع حاليا لبلدية وهران.
وأفادت بن شريف، أنّ “ مسؤولية تلقين تاريخ الجزائر الصحيح والحقيقي للأجيال الصاعدة، مهمة الجميع سلطة وشعبا، من أجل التحصين ضدّ محاولات التزوير والتزييف والتشويه والحفاظ على ثوابت الأمة، وتعزيز عناصر هويتها والشعور بالانتماء إلى الوطن”.
مـسرغين.. جـسدت أروع صور التلاحم
من جانبه، أكّد المرشد السياحي المعتمد بالديوان المحلي للسياحة بوهران “أونات”، والأمين الولائي لحماية الموروث الثقافي لدى المكتب الولائي للمنظمة الوطنية لحماية التراث الثقافي والتنمية السياحية بوهران، بركان كراشاي هارون، أنّ “معركة مسرغين من أهم المعارك في كفاح وتاريخ المنطقة، باعتبار، أنّها جسّدت أروع صور التلاحم والتضحيات الجسام في مسيرة الحرب الجزائرية الإسبانية التي استمرت لمدة ثلاثة قرون متوالية إلى غاية تحرير مدينة وهران سنة 1792”.
وقادنا بركان كراشاي، في رحلة عبر الزمن، استحضر فيها صفحات من تاريخ الأسلاف والأجداد ونضالهم المستميت ضدّ الغزو الإسباني، الذي تمكّن من الاستيلاء على ميناء المرسى الكبير في 1505م، ولم يدخل الجيش الإسباني في معركة حاسمة ضدّ المسلمين، وبقي محصورا بين جدران حصان المرسى الكبير لمدّة سنتين.
لهذا أراد القائد”دون دياغو”، أن يختبر قدرات قواته الحربية في معركة حاسمة، بدل القتال وراء جدران المعاقل، وكان متيقنا بالنصر، وأن يرجع إلى المرسى الكبير بغنائم وأموال وأسرى من رجال يستغلون في أعمال شاقّة، ونسوة لمآرب أخرى، إلا أنّ الغنائم لم تكن الهدف الرئيسي من هذه الحملة، بل كانت لجسّ النبض واختبار مدى قوّة المسلمين ومدى استعدادهم، من جهة، واستكشاف المسالك التي تؤدّي إلى تلمسان، من جهة أخرى، بحسب تعبيره.
وأوضح المصدر نفسه أنّ “القائد “دون دياغو”، أعدّ العدّة للمعركة أو لغزو مفاجئ، مستعينا برجال من قبيلة “قيزة”، التي تسكن المرسى الكبير، واتخذّ منهم أدلّة وحرسا ومرتزقة، وقد مرّ الجيش الإسباني قاصدا مسرغين بأوديتها وشعاب الجبال، حتى يضمن سلامة الجيش، ذهابا وإيابا.
لأنّ الطريق السهل الذي يصل مرسى الكبير بمسرغين، يحتّم عليهم المرور بمدينة وهران الإسلامية، وهذا الطريق لا يسلك من أجل غزوة مفاجئة، وكذلك أنّ الجيش الإسلامي المرابط بوهران سيردّه على أعقابه، كلّ هذه المعطيات جعلت الإسبان يتخذون طريق الوديان والجبال، خاصّة وأنّ الحملة الإسبانية يقودها مرتزقة من قبيلة قيزة، وهم أدرى بشعاب المنطقة ومسالكها الوعرة، بما أنّهم أهل المنطقة…”.
قلّة متطوّعة قلبت موازين القوى
وفي 6 جوان 1507م، غادر القائد العسكري المرسى الكبير على الساعة التاسعة ليلا بجيش كثيف، بدون إحداث أيّ ضوضاء أثناء سيرهم، وعند مطلع الفجر حاصروا “دوار العربي” من كلّ الجهات، وهجموا عليه، ما جعل العرب في حالة ذهول من هذا الهجوم القوي والمفاجئ، لكنّهم سرعان ما استرجعوا أنفاسهم، وقابلوا العدو بمقاومة عنيفة، باعتراف المؤرخين “الإفرنج”.
لكنّ ذلك لم ينفعهم، نظرا لكثرة الإسبان وأسبقيتهم في الهجوم، فقتل كلّ من كان قادرا على حمل السلاح، وسيق الأحياء منهم والنساء والأطفال إلى الاستعباد، إضافة إلى جمعهم الغنائم، وحينها قرر الجيش الإسباني، الرجوع إلى المرسى الكبير، فانتهت المعركة بانهزام المسلمين.
واسترسل بركان كراشاي، شارحا أنّ “هذه المعركة حامية الوطيس، لا تقف عند هذا الحدّ فحسب، بل إنّ أهل الدواوير المجاورة والقريبة من المكان، بلغهم ما حلّ بإخوانهم “الغرابة”عن طريق الذين تمكّنوا من الفرار، من أجل طلب النجدة، فلبّوا نداء الجهاد، وألهبت روح الحمية، لينقذوا إخوانهم من الأسرى، فالتحق المجاهدون من الفلاحين والمتطوّعين بالقافلة الإسبانية، وخاضوا اشتباكات عنيفة مع جنود الاحتلال، ودوّت صيحاتهم عاليا إلى درجة أنّها أربكت جنود العدو، وعجزوا حتى عن استعمال أسلحتهم، ولم يتمكّنوا حتى من رؤية أعدائهم؛ لأنّ الضباب الكثيف خيّم على الأجواء، استنادا إلى مؤرخين أوروبيين دائما”.
وانتقل بنا المرشد السياحي، إلى المرحلة الثالثة من المعركة، كما وصفها، وقال: حين وصل الخبر إلى وهران بخصوص المعركة الملتهبة في مسرغين، تم إرسال حامية لمساعدة المجاهدين، وفور وصولها إلى ميدان المعركة، تعالت هتافات التكبير والتهليل عاليا، رافعة للمعنويات بالعزم والصبر، فازداد حماسهم في القتال وانهالوا على الإسبان.
واسترجعت كلّ الغنائم وفكّت قيود الأسرى من الرجال والنساء، وكادوا أن يقتلوا جميع جنود الإسبان، لولا أنّ أحد الأندلسيين الذين خضعوا لإسبانيا نادى المسلمين باللسان العربي: “أن ألقوا عليهم القبض ولا تقتلوهم، فإنّكم ستكسبون مالا كثيرا عندما يبعث لكم أهلهم بفديتهم”، فوافقوا وأسروهم، وفقما أشير إليه.
ووفقا للمصدر نفسه، فقد قتل من الإسبان ثلاثة آلاف من الجنود، ورجع أحد الضباط إلى المؤخرة، يخبر القائد بالهزيمة التي حلت بجيشه، فلم يعد يفكر إلا في العودة إلى المرسى الكبير، وكان ذلك يقتضي فتح الطريق إليه، فتقدم القائد مع قلة من جنوده وقاوم.
فكاد يقتل لولا حماية بعض أفراد جيشه الذين التفوا حوله، وضحوا بأنفسهم مقابل نجاة قائدهم، فأعطاه أحدهم جواده حتى يتمكّن من الهروب من أرض المعركة، واختبأ القائد رفقة خمسة من جنوده في شعاب الجبال، والعرب يبحثون عنهم حتى مطلع الفجر، ولكنّهم لم يجدوهم، فتمكّنوا من الفرار إلى المرسى الكبير..”.
وقد توالت الهزائم، هذه المرة عند رجوع الإسبان إلى المرسى الكبير؛ حيث أنّ القائد لم يكن يدري أنه سوف يقع ضحية تعليماته وأوامره الصارمة، المتمثلة في عدم فتح أبواب القلعة لأيّ كان وبأيّ حال من الأحوال، قبل طلوع الشمس، لهذا امتنع الحرس عن فتح الأبواب، وبقي القائد مع بقية أفراده في العراء، حتى مطلع الشمس، فدخل القلعة مهزوما مقهورا.
فيما حاول المجاهدون الاستثمار في النصر، باسترجاع مرسى الكبير، إلا أنّ المدافع الإسبانية صدّتهم عن ذلك، كما تم إرسال خمسمائة مقاتل مدربين أحسن تدريب من إسبانيا نحو مرسى الكبير، لذلك فشلت حامية وهران التي جاءت لتحرير المرسى، فرجعوا إلى وهران منتظرين الحملة التي سوف يقودها الكاردينال خيمينس ضدّ المدينة.
ختاما، أكّد بركان كراشاي هارون، كواحد من أبرز الشباب المهتمين بالتاريخ والمعالم الأثرية القديمة، على ضرورة تعريف النشء بتاريخ وطنه بمختلف منعطفاته وأحداثه، لتكون مصدرا للإلهام وشحذ الهمم للأجيال القادمة.
وقال : “من حسن الحظ، أنّ شواهد مهمة من تاريخ وهران الغني بدلالاته القوية والرمزية، لا تزال صامدة إلى يومنا هذا، وكلّ همنا اليوم، المحافظة على الآثار وكلّ ما يعود إلى العصور والعهود القديمة التي تعاقبت على المنطقة، وأن ينقل التاريخ بكثير من الدقّة والمصداقية للأجيال المقبلة”.
مسعودة براهمية
معركة مسرغـين… محطة مفصلية في تاريخ وهران – الذاكرة (echaab.dz)