المؤرخ مولاي بلحميسي، مؤرخ البحر والبحرية في الجزائر مثلما تصفه معظم المصادر التاريخية.
الدكتور بلحميسي، ابن مدينة مازونة، ينتمي للجيل الثاني من مدرسة المؤرخين الجزائريين المعاصرين، أي مؤرخي القرن العشرين ومطلغ القرن الواحد والعشرين، ترك آثار علمية غزيرة على الساحة العلمية والفكرية بالجزائر وبمنطقة المغرب العربي.
إلتزم بالحقيقة التاريخية، كان يعتمد المصادر والوثائق الأرشيفية الأصلية، وكان يقرأ بلغات عديدة منها الفرنسية والإنجليزية والإيطالية و الإسبانية، مثلما تؤكده مصادر تاريخية.
كان الجهاد البحري الشغل الشاغل للمؤرخ مولاي بلحميسي، ولديه مؤلف بعنوان “الجزائر والغزو البحري في القرن السادس عشر”، بيّن فيه أهمية الجهاد كواجب ديني ومهنة. نفض الغبار عن هذا الموضوع، مثلما يؤكد البروفيسور بوعزة بوضرساية، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر وعميد جامعة محمد البشير الإبراهيمي ببرج بوعرريج حاليا، في مقاله بعنوان “من الجهاد البحري في كتابات المؤرخ الجزائري الدكتور مولاي بلحميسي”، الصادر في جانفي 2020 بمجلة الدراسات العسكرية.
مولاي بلحميسي، من مواليد 17 يناير1930 بمنطقة مازونة بولاية معسكر، باحث ومؤرخ جزائري، تعلم في الكتاتيب القرآنية ثم إلتحق بالمدرسة الإبتدائية في 1936، إلى غاية 15 جوان 1943، وهي السنة التي حصل فيها على شهادة التعليم الإبتدائي التحضيرية في وقت لم يكن لأبناء الجزائر الوصول الى مراحل متقدمة في هذا السلك، الذي سيطرت عليه الإدارة الإستعمارية، بتقييد قوانين ومراسيم يصعب على الجزائري اجتيازها، يقول الأستاذ بوضرساية.
للمؤرخ بلحميسي، مؤلفات عديدة منها “تاريخ مازونة من الأصول إلى يومنا هذا”، صدر في 1981، غارة شارلكان على الجزائر 1541، بين المصادر الإسلامية والمسيحية، الحروب الصليبية على المغرب والمقاومة الشعبية، هجوم رياس الجزائر على عاصمة إيسلندا، الأسرى الجزائريين في أوروبا المسيحية، البحرية الجزائرية ما بين 1516 و1830.
ويضيف بوضرساية: ” انتقل بلحميسي، إلى مدينة تلمسان لإكمال دراسته الثانوية، حيث إلتحق بالثانوية الفرنسية الإسلامية وفيها تحصل على شهادة البكالوريا، التي سمحت له بالإنتقال إلى العاصمة الجزائر لإتمام الدراسات العليا، وهذا ما مكنه من الحصول على دبلوم معهد الدراسات العليا الإسلامية في 1954.”
ويشير الأكاديمي: ” هذه الشهادة سمحت له من الولوج إلى مدرجات جامعة الجزائر انذاك، قضى فيها أربع سنوات كاملة اختص خلالها في تاريخ المشرق الإسلامي، وكان من بين الأساتذة الذين درسوه من المستشرقين والمستعربين الفرنسيان ماريوس كنار Mariauce quinard، وروجي لوتورنو Roger Letournau، هذا الأخبر كان متخصصا في تاريخ المغرب الإسلامي بجامعة الجزائر.”
” في 1958 حصل بلحميسي، على إجازة في الأداب بتقدير قريب من الجيد من مجموع 300 طالبا أغلبيهم فرنسيون ما عدا تسعة طلبة كانوا جزائريين، وبعد الإستقلال في 1963 حصل على منحة للخارج، حيث اختار إحدى الجامعات الفرنسية لمواصلة الدراسات العليا وهي جامعة إكس أون بروفانس، ومنها حصل على شهادة الدراسات العليا التي مكنته من الإستمرار في ميدان البحث العلمي، ونال شهادة الدكتوراة الدرجة الثالثة في 1972، التي فتحت له أبواب مواصلة الدراسة من أجل الحصول على أعلى درجة علمية في 1986.”، حسب شهادة الدكتور بوضرساية.
يقول : “من جامعة بوردو الفرنسية كانت آخر شهادة علمية نالها هي شهادة دكتوراة دولة ليعود إلى الجزائر ويلتحق بالجامعة أستاذا محاضرا في تاريخ الجزائر الحديث في الفترة العثمانية، حيث انصبت مؤلفاته تقريبا حول الجهاد البحري أو ما اصطلح عليه بالبحرية الجزائرية خلال العهد العثماني.”
تعليم وتكوين الأجيال
أوكلت للمؤرخ بلحميسي مهام علمية وإدارية عديدة منها مديرا لمعهد التاريخ في 1986، ونائبا لرئيس الجمعية الدولية لمؤرخي البحر الأبيض المتوسط ثم أصبح رئيسا للإتحاد الوطني للزوايا الدينية في الجزائر بين 2003 و2004، عُين رئيسا لجامعة المغرب العربي التي كان مقرها بالعاصمة الليبية طرابلس، إلى جانب انتخابه رئيسا للمجلس العلمي للمعهد الوطني للآثار، توفي في السبعينيات عن العمر سنة 2009.
كرس الفقيد بلحميسي، جزءا كبيرا من حياته للتكوين والتعليم، حيث شغل في الفترة بين 1995 و2000، أستاذا في التعليم الثانوي، ثم بالجامعة. شغل في البداية منصب أستاذ مساعد في الفترة 1966-1969، ثم مكلف بالدروس في الفترة 1969-1986، أستاذ محاضر 1986-2000، وانتخب عضوا شرفيا بمعهد أتاتورك بأنقرة سنة 1986 .
للمرحوم بلحميسي مؤلفات عديدة منها “الجزائر من خلال رحلات المغاربة في العهد العثماني”، صدر في 1979، “تاريخ مازونة وتاريخ مستغانم” صدرا في 1981، “الجزائر من خلال مياهها” صدر في 1994، “العرب والبحر في التاريخ والأدب (2003)”، “الأسطول البحري الجزائري 1516-1830.”
في هذا الصدد، يوضح الدكتور أحمد رنيمة، في دراسة بعنوان “مولاي بلحميسي 1930-2009، مؤرخ البحر والبحرية في الجزائر”، نشرت بمجلة العصور الجديدة العدد 3-4، عدد خاص 2011-2012. أن مؤلفات المرحوم مولاي بلحميسي، ارتكزت على تاريخ الجزائر البحري وما يتصل به من مواضيع متنوعة كالحروب البحرية وبناء السفن والأساطيل وقضايا الأسرى ومدن المواجهة والحصون والعلاقات السياسية والتجارية والجوسسة وغيرها.
ويذكر الباحث رنيمة، الذي كان له لقاء مع المرحوم بلحميسي في خريف 1995: “يبدو ان حياته كمؤرخ كانت نموذجية فكان المؤرخ، الذي يكتب عن مدينته ثم منطقته ثم وطنه ثم عن محيطه الإقليمي أي البحر المتوسط، وهكذا بدأ بكتابة تاريخ مازونة ثم تاريخ مستعانم”.
إنتاج علمي غزير
ويضيف: “كتابه الأهم هو أطروحة الدكتوراة، التي قدمها في جامعة بوردو بفرنسا في 1986، وكان عنوانها “بحرية وبحارة الجزائر 1518-1830″، صدرت في ثلاث أجزاء في 1996، ثم صدرت في طبعة أخرى في إطار الجزائر عاصمة الثقافة العربية في 2008، ومؤلف آخر بعنوان ” الجزائر مدينة الألف مدفع”، صدر باللغة الفرنسية”.
ويشير الباحث إلى مؤلف آخر ذي أهمية صدر في 1999، بعنوان “الجزائر، أوروبا والحرب السرية 1518-1830، ويقع الكتاب في 221 صفحة.
تتمحور أبحاث ودراسات مولاي بلحميسي حول تاريخ العهد العثماني في الجزائر ، اي منذ دخول الأخوين عروج وخير الدين بربروس، ومحاولاتهما الأولى للتمكن من السلطة في الجزائر ابتداء من 1516، وتمتد فترة دراساته إلى غاية نهاية هذه الفترة بدخول الإستعمار الفرنسي في 1830”.
ويضيف الدكتور رنيمة “المؤرخ بلحميسي، لديه تحقيق كتاب غزوات عروج وخير الدين، لمؤلف مجهول نال به درجة دكتوراه حلقة ثالثة من جامعة أكس في جنوب فرنسا سنة 1972، وكذلك كتاب الجزائر من خلال رحلات المغاربة في العهد العثماني صدر في السنة نفسها، وكانت له طبعة ثانية في 1981.”
إضافة إلى مجموعات معتبرة من المقالات صدرت في المجالات العلمية المتخصصة، التي أشرفت على إصدارها الهيئات العلمية بالجامعات الجزائرية، ومساهمته في نشر مقالات ضمن الأعمال الخاصة بتاريخ البحر المتوسط وتاريخ العصر الحديث في أوروبا وبخاصة فرنسا وكانت باللغة الفرنسية.
ويؤكد الدكتور رنيمة، أن من أهم مقالات المؤرخ بلحميسي، مقال بعنوان “الجزائر والغزو البحري في القرن السادس عشر”، “غارة شارلكان على مدينة الجزائر من المصادر الاسلامية والمصادر الغربية”، ومقال بعنوان “جانب من جوانب الصراع الأوروبي: الجوسسة الغربية في الجزائر 1518-1830،” ومقال بعنوان “إقناع الجيران في أمر الداي شعبان”، ومقالات بالفرنسية منها مقال بعنوان”المؤرخين الفرنسيين والجزائر في العهد العثماني، الجزائر ومارسيليا ابواب عالمين في العهد العثماني: مسيحيون ومسلمون في عصر النهضة”. ومقال بعنوان” وصف مدينة وهران”، ومقالات أخرى.
ويشير الباحث رنيمة إلى أن تكوين مولاي بلحميسي، باللغة الفرنسية وتمكنه من اللغة العربية سمح له بالإطلاع على أجزاء مهمة من التراث العربي الإسلامي، وبالتالي المقارنة بين قيم الحداثة الغربية وقيم الحضارة الاسلامية.
يقول:” ومنه تظهر شخصية بلحميسي، الوطنية الذي أكد دوما ان الجزائر جزء لا يتجزأ من الأمة الاسلامية وأن فترة الإحتلال الفرنسي، لم تكن سوى مرحلة يائسة كشف فيها المشروع الإستعماري عن نقاط ضعفه وتناقضاته رغم خطاباته الدعائية لتمجيد القيم العالمية والعمل على نشرها وسط الشعوب الأقل تطورا مثلما كان يدعي دوما.”
ويضيف الأكاديمي: “تعرض بلحميسي لموضوع العمران بإعتباره ظاهرة بشرية وحلل مظاهره وكثيرا ما يعتمد على ابن خلدون في تدعيم بعض الأطروحات، التي يحاول اثباتها أو التحقيق في صدقها، واستخدم كل المظاهر التاريخية ذات الطبيعة السياسية والإقتصادية والاجتماعية والدينية والفكرية والأدبية والعسكرية والنفسية وغيرها”.
مولاي بلحميسي.. مؤرخ البحرية الجزائرية – الذاكرة (echaab.dz)