وطن … كلمة من ثلاث أحرف ، قد تظهر عند البعض ممن لا يدركون معناها هينة لكنها كبيرة جدا عند الكثيرين ممن فقدوا هذا الحق وصاروا لاجئين في أوطان غيرهم، هذا الكلام يقول الكثيرون أنهم حفظوه وأنه مجرد شعارات لكنهم في الحقيقة أدركوه في مخيلاتهم فقط ولم يدركوا معناه واقعيا.
وطن … كلمة من ثلاث أحرف ، صغيرة في حجمها كبيرة في معناها ، كلمة تعني الكثير عند من هاجروا من نفس الوطن بحثا عن فرص أفضل في زمن ما لم تتح فيه لهم فرصة للحلم حسبهم وقد حصلوا على فرصتهم المادية لكنهم على الرغم من ذلك لازالوا يحلمون وهم في ديار الغربة بالحضن الدافئ للوطن وهذا نستشفه من كتاباتهم وأحاسيسهم التي تظهر عليهم حينما تراهم ينزلون على تراب الوطن عائدين من غربة يحكون بكل مرارة وحشتها، وكما قال أبو تمام:
كم من منزل يألَفه الفتى وحنينه أبدًا لأول منزلِ
منذ بدء الثورات ونحن نرى مظاهر الدم والشتات والرعب، فلا خير في حرب يبدأها أهلها بينهم لأنها تحمل في طياتها البؤس والفرقة واليتم والألم، نشاهد أما تبكي ولدها الشهيد وطفلا انتُشل من بين أنقاض بيته أين لقي أهله حتفهم ليبقى وحيدا يواجه مستقبلا مجهولا.
نتجول بين شوارع مدننا لنرى لاجئين أتت بهم الحرب لوطن غير وطنهم يشاهدوننا بدورهم ويحلمون بالعودة لأوطانهم لينعموا بالحرية والعيش الكريم الذي لا يعرف معناه البعض حتى يحرموا منه إن هم يوما هجروا أوطانهم.
العيش الكريم أن تستيقظ صباحا تتنفس هواء وطنك لا هواء وطن آخر، أن تشم عبق القهوة التي وإن لم يكن منبتها في وطنك لكنها تأخذ رائحة كل وطن تدخل إليه فرائحة القهوة في الجزائر لها نكهتها الخاصة وذكرياتها المرتبطة بها وحنينها كتلك التي أخذت عبق لبنان ومصر وغيرها.
العيش الكريم أن تأكل خبز وطنك وإن كان قمحه ينبت بعيدا لكن له طعمه الخاص ، طعم الأيادي التي تخبزه.
العيش الكريم أن تقول لي وطن اسمه “الجزائر” مات من أجله الملايين لأحيا اليوم وأنا أفتخر بثورة قادها أجدادي وألهمت العالم وصارت مثالا لكل الشعوب المستعمرة.
وطن يقوم بترسيم مئات الآلاف من الشباب في مناصب عمل دائمة في حين كثير من بلدان تشكو البطالة القهرية ، استحدث العديد من فرص الشغل في القطاع الخاص وخصص منحة للبطالة إلى حين ايجاد مناصب لأصحابها.
وطن انتهج سياسة البناء الريفي فخلق ما يسمى بالمدن المصغرة التي تحوي كل المرافق الحضرية ومنها المكتبات العمومية للمطالعة والتي تخلو من القراء للأسف إلا القليل منهم ممن لازال يغويهم الكتاب الذي يتاح لهم مجانيا.
البناء … يعني البيت … البيت … نعم ، هذا البيت الذي أضحى حلما عند من يعانون من ويلات الحرب واستحالت بيوتهم إلى أطلال تحت وحشية القذائف.
وإننا نتذكر في هذا المقام رواية للكاتبة الكردية السورية مها حسن “عمتِ صباحا أيها الحرب” أين تحدثت عن تجربتها الشخصية في الثورة السورية على غرار رواياتها الأخرى أين خصصت جزءً خاصا تحكي فيه عن المعنى العميق للبيت بعنوان “هاجس البيت” تقول فيه: ” البيت يعني سريرا وغطاء، والحلم بالنوم بين جدران آمنة، تحمي من البرد والخوف والمباغتة.
البيت يعني أن تدخل إلى مكان مغلق، تُقفِل عليك بابه فتشعر بطمأنينة السلام. السلام هو السلام، الوقاية من الآخر، وعلى نقيضه الناس اللا بيت، هو التواجد في احتمالية الخطر: هجوم ما من طرف ما ، إنسان، حيوان ، طبيعة..
سيكون حلم السوريين، بعد حلم طويل من الحرية والمساواة، والتحرر من الخوف، فقط: بيت!
سيتنازل السوريون عن أحلام الأفكار الكبرى في العدالة والحق والحرية، وسيكتفون بحلم الأمان في مكان يقيهم من الخوف … ”
وتردف قائلة: ” كلما أشرقت شمس الصباح في مطبخي الفرنسي، تسرب خيال مطبخ بيت أهلي داخل مطبخي هنا: بروائح الثوم و البصل والزيت المقلي ودبس البندورة وعلب النعنع اليابس والكمون والكزبرة… المطبخ السعيد كأحلام الأطفال، هو مطبخ أمي، والبيت السعيد هو ذلك البيت القديم الذي كنت أكرهه حالمة بالخروج منه صوب الانفلات والحرية والضوء.
أنا لدي بيت هنا، لكن غرام البيوت ظل عالقا هناك.
من ليس لديه بيت يحلم ببيت له جدران يضع عليها صور الطفولة أو العائلة أو الأم التي ماتت في الحرب… بيت يحمل رائحة الحماية.”
هذا إحساس لاجئة مقيمة في وطن الغير ، حينما تقرأ كل هذا تدرك ما معنى أن يكون لك وطن وبيت هو وطن من نوع آخر، وطنك الشخصي الذي لك حرية ادارته والتصرف فيه كما تشاء.
إن امتلاك هذا الحق لا يعني التنازل عن الحقوق الأخرى، لأن من يقوم بواجبه من حقه المطالبة بحقوقه وعليه أن لا ينسى أن الوطن هو أهم حق لأن من يقول ” وطني” عليه أن يتذكر من ضحى بنفسه ليحيا غيره في هذا الوطن.
اليوم مع حلول الذكرى الستين لاستقلال الجزائر الحبيبة ، فليحيا وطننا الجزائر حرا أبيا شامخا برجاله ونسائه الأحرار.
لامية خلف الله/ كاتبة من شرق الجزائر