تشهد مالي في الآونة الأخيرة أزمة أمنية وسياسية غير مسبوقة، حيث تتخبط الحكومة الانقلابية بقيادة الرئيس المؤقت عاصيمي غويتا في مواجهة تحديات داخلية وإقليمية متعددة. ومع انسحاب قوات مجموعة “فاغنر” الروسية، وجد الجيش المالي نفسه وحيدًا في ميدان المعركة ضد الجماعات المتمردة في شمال البلاد، وخاصة في منطقة الأزواد. في هذا التقرير، نستعرض أسباب وتداعيات هذا الانهيار الكبير للجيش المالي ونحلل الدور الجزائري في المشهد المعقد.
تفاقم الأزمة بعد الانقلاب
منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكومة المنتخبة في عام 2021، حاولت السلطة العسكرية في مالي تقديم نفسها كمنقذ للبلاد من الإرهاب والفوضى، لكن السياسات التي انتهجتها قادت إلى تعميق الأزمات. فبدلاً من تعزيز الوحدة الوطنية، أدى إلغاء “اتفاق الجزائر” الذي كان يعتبر أساسًا للسلام بين الحكومة والمتمردين في شمال مالي إلى تجدد النزاعات المسلحة، مما زاد الوضع تعقيداً.
هذا الاتفاق، الذي وقع في الجزائر عام 2015، ساعد في تحقيق هدوء نسبي وأسس لنوع من التعايش بين مختلف الأطراف المتصارعة، بما في ذلك الحكومة المركزية وحركات التمرد في الشمال. ورغم التحفظات التي أبداها البعض، إلا أن الاتفاق ساهم في تخفيف حدة الصراع وأتاح للدولة المالية فرصة لترميم ما دمرته سنوات من الحروب الأهلية.
انقلاب غويتا: بين الوعود والواقع المرير
رغم أن السلطات الانقلابية وعدت بإحلال الأمن وتحقيق الاستقرار، إلا أن الواقع أثبت عكس ذلك. فبدلاً من بناء جيش قوي وقادر على مواجهة التحديات، اعتمدت الحكومة العسكرية بشكل كبير على القوات الأجنبية، وخاصة قوات “فاغنر” الروسية. هذا الاعتماد المفرط كشف هشاشة الجيش المالي، الذي كان عاجزًا عن التصدي للجماعات المسلحة بمجرد انسحاب هذه القوات.
بإلغاء اتفاق الجزائر، فتحت الحكومة الباب أمام تصاعد التوترات في إقليم الأزواد، حيث تعززت صفوف الجماعات المتمردة وبدأت في استعادة السيطرة على مناطق شاسعة من شمال مالي. وفي ظل غياب حل سياسي حقيقي، تبدو البلاد على شفا انفجار جديد، مع ازدياد وتيرة الهجمات وتصاعد الصراع المسلح في المنطقة.
الدور الجزائري: ضامن السلام الغائب
لطالما لعبت الجزائر دور الوسيط الحاسم في حل النزاعات الإقليمية، خاصة في مالي، باعتبارها دولة حدودية ومؤثرة في المشهد الأمني. اتفاق الجزائر كان أحد أبرز إنجازات الدبلوماسية الجزائرية في مجال حل النزاعات الإفريقية، حيث أسهم في تحقيق نوع من الاستقرار في مالي. ولكن مع وصول الانقلابيين إلى السلطة، قررت الجزائر الوقوف على الحياد، مكتفية بتحصين حدودها ضد أي تهديدات محتملة.
وقد جاء رد الجزائر على إلغاء اتفاق الجزائر هادئًا ولكنه حازم، حيث أكدت على احترام السيادة المالية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. غير أن هذا الموقف لم يمنع الجزائر من حماية حدودها وتعزيز تواجدها الأمني في المنطقة، خاصة مع تزايد تهديدات الجماعات الإرهابية والمتمردة في الشمال المالي.
انسحاب “فاغنر” والمصير المجهول للجيش المالي
كانت مجموعة “فاغنر” الروسية تمثل العمود الفقري للعمليات العسكرية التي تقوم بها الحكومة المالية ضد المتمردين. ولكن بعد انسحابها المفاجئ في الأشهر الأخيرة، وُضع الجيش المالي في موقف حرج للغاية. هذا الانسحاب جاء نتيجة لضغوط دولية على روسيا وتراجع الاهتمام الروسي بالملف المالي، خاصة بعد تورط موسكو في الحرب الأوكرانية.
أدى انسحاب “فاغنر” إلى انهيار القدرات العسكرية للجيش المالي، حيث لم يعد بإمكانه الصمود في وجه هجمات المتمردين المستمرة. ورغم الدعم المحدود الذي تلقاه من الإمارات وبعض القوى الإقليمية، إلا أن هذا الدعم لم يكن كافيًا لتعويض الفراغ الذي تركته “فاغنر”، مما أدى إلى تفاقم الوضع الأمني بشكل كبير.
الأزواد: عودة قوية وتمرد متجدد
تعد منطقة الأزواد في شمال مالي من أكثر المناطق تأثرًا بانهيار الجيش المالي. فهذه المنطقة التي طالما كانت معقلًا للجماعات المتمردة شهدت عودة قوية لهذه الحركات، التي استفادت من غياب القوات الحكومية لتعزيز مواقعها. العديد من المحللين يرون أن هذه الجماعات أصبحت أكثر قوة وتنظيمًا مما كانت عليه في الماضي، وأنها تسير بخطى ثابتة نحو استعادة السيطرة على كامل المنطقة الشمالية.
الأزواد، الذي لطالما طالب بالاستقلال أو على الأقل بحكم ذاتي موسع، بات في موقف تفاوضي قوي بعد أن نجح في إعادة ترتيب صفوفه وتوحيد فصائله المسلحة. هذه التطورات جعلت من إمكانية العودة إلى اتفاق سياسي شامل أكثر صعوبة، خاصة مع تراجع ثقة المتمردين في الحكومة المالية وقدرتها على إدارة البلاد.
الآفاق المستقبلية
في ظل هذه الظروف، يبدو أن مالي تتجه نحو مرحلة جديدة من الفوضى وعدم الاستقرار. ومع تزايد قوة المتمردين في الشمال، وانهيار الجيش المالي بعد انسحاب “فاغنر”، تصبح البلاد عرضة لانهيار شامل قد يتسبب في تقسيمها إلى مناطق نفوذ متصارعة.
الدور الجزائري في المرحلة المقبلة قد يكون حاسمًا في تحديد مستقبل مالي، خاصة إذا ما قررت الجزائر التدخل مجددًا كوسيط لتحقيق السلام. ولكن في ظل غياب إرادة حقيقية لدى الأطراف المتصارعة لإيجاد حل سياسي شامل، تظل الخيارات محدودة، وقد تكون مالي على أعتاب صراع طويل الأمد قد يعيد المنطقة إلى مربع الحرب الأهلية.
تشهد مالي اليوم واحدة من أصعب الفترات في تاريخها الحديث، حيث تشتعل نيران الصراع المسلح من جديد في الشمال، وتزداد التوترات السياسية والعسكرية داخل البلاد. وبينما يراقب العالم الوضع بقلق، يظل مصير مالي معلقًا بيد قادة لم يتمكنوا من تحقيق الاستقرار والسلام، ويبدو أنهم في طريقهم نحو مزيد من العزلة والتخبط.