نشرت وسائل الإعلام الإيرانية – وعلى رأسها وكالة أنباء الطلبة “إيسنا” – في الثاني والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2024، أخباراً مفادها أن المملكة العربية السعودية قد اقترحت على إيران، إجراء مناورات بحرية مشتركة في البحر الأحمر، وقد نقلت وسائل الإعلام الإيرانية هذا الخبر على لسان قائد القوة البحرية الإيرانية النظامية، الأدميرال شهرام إيراني، الذي قال نصاً “اقترحت السعودية إجراء مناورة مشتركة في البحر الأحمر، ووجّه كلا البلدين دعوة لبعضهما البعض للتواجد في موانئ كلّ منهما، وقد شملت المقترحات السعودية إجراء تدريب ثنائي بالإضافة إلى تدريبات بمشاركة دول أخرى”.
حتى الآن لم تؤكد المملكة العربية السعودية حدوث هذه المناورات من عدمها، لكن من حيث الشكل، يمكن النظر إلى هذا التطوّر كنتيجة من نتائج عودة التطبيع في العلاقات بين الجانبين بشكل كامل في آذار/مارس 2023، حيث تضمّنت هذه العودة، عدداً من المظاهر المرتبطة بتحسّن العلاقات العسكرية بينهما، والتي كانت هامشية جداً خلال العقود الماضية، منها عودة الروح إلى الاتفاقية الأمنية بين الجانبين، فقد سبق ووقّع كلا البلدين – بعد مفاوضات دامت عامين – في نيسان/أبريل 2001، اتفاقية للتعاون الأمني، وقّعها عن الجانب السعودي وزير الداخلية حينها الأمير نايف بن عبد العزيز، ومن الجانب الإيراني وزير الداخلية عبد الواحد موسوي، ونصت الاتفاقية على العديد من البنود التي تحمل طابعاً عسكرياً وأمنياً، أهمها إنشاء منتدى أمني للحوار الاستراتيجي بين البلدين لرصد الأخطار المشتركة وإقامة آلية لمواجهتها، والتعاون في مجال الإنقاذ البحري والتسلل غير المشروع، وتحجيم نشاطات المعارضة في البلدين.
وبموجب المادة التاسعة من هذه الاتفاقية، تمّ تشكيل لجنة أمنية مشتركة لبحث تفعيل الاتفاقية، اجتمعت مرتين في تشرين الثاني/نوفمبر 2001 ونيسان/أبريل 2008، لكن لم تسفر اجتماعاتها عن تفعيل كامل لهذه الاتفاقية، وتجمّد هذا المسار تماماً عام 2016، بعد قطع العلاقات بين الجانبين، وظلت هذه الحالة قائمة إلى أن عاد الحوار بين الجانبين مرة أخرى عقب عودة العلاقات بينهما في آذار/مارس 2023، بشأن تفعيل هذه الاتفاقية، وهو ما لم تتمّ بلورته بشكل كامل حتى الآن.
تصاعد التواصل العسكري المباشر بين الجانبين
منذ عودة العلاقات بين الجانبين، تمّ في عدة مناسبات عقد لقاءات ذات طابع عسكري أو أمني مباشر بين الجانبين، والبداية كانت في موسكو بشهر آب/أغسطس 2023، بين نائب رئيس الأركان الإيراني، العميد عزيز ناصر زاده، ونائب وزير الدفاع السعودي، طلال عبد الله العتيبي، على هامش معرض موسكو العسكري للصناعات الدفاعية، وقد كان هذا أول لقاء رسمي يجمع بين مسؤولين عسكريين من كلا الجانبين، وتقرّر خلاله تبادل الملحقين العسكريين للبلدين في أسرع وقت ممكن.
اللقاء الثاني تمّ في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، بين وزير الداخلية السعودي، الأمير عبد العزيز بن سعود بن نايف، والسفير الإيراني لدى السعودية، علي رضا عنايتي، وبحثا حينها قضايا مشتركة بين البلدين تتعلّق بالأمن وحرس الحدود.
في الشهر نفسه، جرت محادثة هاتفية هي الأولى من نوعها، بين وزير الدفاع السعودي، خالد بن سلمان، ورئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية، محمد حسين باقري، أبدى خلالها الوزير السعودي ترحيبه بزيادة مستوى تعاون القوات المسلحة للبلدين. أما في شباط/فبراير الماضي، فتمّ لقاءان هامّان على المستوى العسكري بين الجانبين، الأول التقى فيه كل من العميد بهمن بهمر، نائب رئيس العمليات في هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، ورئيس الأركان العامة السعودية، الفريق أول فياض بن حامد الرويلي، على هامش معرض الدفاع العالمي الذي استضافته المملكة العربية السعودية، ودعت فيه بشكل رسمي وفداً عسكرياً إيرانياً.
أما اللقاء الثاني فجمع بين وزير الدفاع الإيراني، محمد رضا أشتياني، والسفير السعودي لدى إيران، عبد الله بن سعود العنزي. آخر هذه اللقاءات تمّ الشهر الماضي، وخلاله التقى نائب رئيس أركان الجيش الإيراني للتنسيق، الأدميرال حبيب الله سياري، ونائب وزير الدفاع السعودي، في العاصمة الصينية قبيل بدء منتدى بكين شيانغشان الحادي عشر، وبحثا خلال اللقاء خطط تعزيز التعاون العسكري بين البلدين.
مناورات عسكرية سابقة بين الجانبين
في حالة تحويل هذا المقترح إلى مناورة فعلية، ستكون هذه هي المرة الثالثة التي يلتقى فيها الجانبان في مناورات عسكرية مشتركة، حيث كانت المرة الأولى عام 2018، وحينها شاركت الدولتان، إلى جانب عُمان وباكستان، في مناورة بحرية مشتركة في المحيط الهندي تحت اسم “تحالف الصداقة”، أما المرة الثانية فتمّت على مدار ثلاثة أيام في تشرين الأول/أكتوبر 2024، وهي المناورات البحرية المشتركة “إيمكس 2024″، التي نظّمتها إيران وشاركت فيها بشكل مباشر كل من روسيا وسلطنة عمان، إلى جانب مشاركة دول أخرى كمراقب، هي السعودية وقطر والهند وباكستان وتايلاند وبنغلادش، وهي مناورات تكتيكية متعلّقة بأمن الملاحة وحماية الممرات البحرية.
بالنظر إلى السياق السابق ذكره، يمكن القول إن هذا المسار يعدّ تطوّراً طبيعياً للحالة الإيجابية التي باتت عليها العلاقات بين الجانبين بشكل عام، والتي من المتوقّع أن تنسحب على العلاقات العسكرية بينهما، رغم أنّ لحاق الجانب العسكري بهذا المسار يبقى رهناً بحلّ المعضلات الأساسية المتعلقة بتعارض طهران والرياض حول عدة قضايا دفاعية، بما في ذلك وجود الجيش الأميركي في الشرق الأوسط، وملفات النفوذ الإقليمي لكلا البلدين، وكذا الخلاف المبطّن بشأن وجود مساعٍ سعودية للتطبيع مع “تل أبيب”.
لذا يمكن حصر المساعي السعودية والإيرانية لتفعيل تعاونهما العسكري في عدة دلالات، أولها هو محاولة نأي المملكة بنفسها عن التصعيد الحالي في المنطقة، حيث تسعى الرياض في المرحلة الحالية، لتأكيد “حيادها” الميداني حيال التطورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023. النهج السعودي في هذا الصدد جنّب الرياض التعرّض لأيّ أضرار جانبية من حالة التصعيد الحالية، والتي يمكن النظر إليها كسبب رئيسي في رغبة الرياض في رفع مستوى العلاقات العسكرية مع طهران، لتصل إلى حد المناورات العسكرية المباشرة.
لكن على الجانب الآخر، تبدو طهران من جانبها حريصة على توسيع هامش التعاون العسكري بينها وبين الرياض، حيث باتت تنظر إلى المملكة العربية السعودية منذ تولّى ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، منصب وزير الدفاع عام 2015، كطرف منافس لها في المنطقة، عوضاً عن النظرة السابقة للمملكة على أنها أحد أهم مواطن النفوذ الأميركي في المنطقة. من تلك النقطة أصبح البعد العسكري مجالاً جديداً للتفاعل بين السعودية وإيران، وقد كان هذا التفاعل في البداية سلبياً، لكن تراجعت ولو بشكل نسبي هذه الحالة السلبية، منذ وقف العمليات العسكرية السعودية في اليمن، وتحوّلت إلى حالة شبه إيجابية.
حيث بدأت طهران خلاله تنظر إلى القدرات العسكرية السعودية المتنامية، بنظرة تفرض عليها العمل على مد جسور التعاون على المستوى العسكري مع السعودية، كوسيلة من وسائل معادلة القدرات العسكرية للرياض، التي تحظى بتفوّق مهم في عدة اتجاهات أهمها القوة الجوية، ناهيك عن تصدّر الرياض قائمة عواصم دول منطقة الشرق الأوسط في حجم الإنفاق العسكري العام الماضي، بميزانية قدرها 259 مليار ريال سعودي، أي ما يناهز 69.1 مليار دولار أميركي، في حين بلغ الإنفاق الدفاعي الإيراني عام 2023، ما يقدّر بـ 3,194 تريليونات ريال إيراني، أي نحو 10 مليارات دولار فقط.
يضاف إلى ما سبق من دلالات، سعي الرياض إلى توسيع تعاطيها الحالي على المستوى الإقليمي، والذي يشمل توثيق الصلات العسكرية مع دول مثل الصين وروسيا، وتقليل الحالة الاعتمادية التي كانت سائدة فيما يتعلق بالتسليح العسكري والأمن في علاقاتها بالولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يمكن قراءته في انفتاح الرياض على تنفيذ مناورات عسكرية مع مختلف الدول الكبرى، مثل الصين، التي عادت لتنفيذ المناورات المشتركة معها في أيلول/سبتمبر 2023، بعد أن توقّفت هذه المناورات منذ عام 2019. هذا التوجّه تنتهجه طهران أيضاً، من منطلق رغبتها في إظهار انطباع بأنّ موقفها الإقليمي الحالي جيد على المستوى العسكري والتكتيكي.
في الخلاصة، يمكن القول إنه رغم حالة التقارب بين طهران والرياض، ودخول العلاقات العسكرية بينهما في هذه الحالة، إلا أن الملفات الأساسية بين الجانبين، والتي تشمل أمن الخليج، وملف وكلاء إيران، وعمليات تهريب الأسلحة والمخدّرات، والتفاعلات الحالية للملف اليمني، بالإضافة إلى تداعيات الحرب الأخيرة في جنوب لبنان وغزة، ودور كلا البلدين، إيران والسعودية، في التأثير على طرفي الصراع، ستكون جميعها عوامل مؤثّرة بشكل حادّ في إمكانية تحوّل حالة التقارب هذه إلى شراكة أو علاقات كاملة الإيجابية، خاصة على المستوى العسكري والأمني، وهذا ربما يفسّر عدم تمكّن كلا البلدين حتى الآن منذ عام 2001، من تفعيل الاتفاقية الأمنية بينهما، وبالتالي يمكن القول إن المقاربة الحالية بين الجانبين، ترتبط بشكل أساسي بالتطورات الحالية في المنطقة، ورغبة كليهما في الخروج من الأوضاع القائمة، من دون الاشتباك المباشر أو خسارة التقدّم “الضئيل” الذي طرأ على العلاقات بينهما.