كتب العديد من المؤرخين والرحالة الأوروبيين عن تاريخ مدينة الجزائر، قبل الغزو الفرنسي، منهم الاستاذ الألماني المختص وليام سبنسر، في كتابه “الجزائر في عهد رياس البحر”.
يؤكد هذا الكاتب، ان الجزائر في العهد العثماني كانت تتمتع باستقلالها وكان حكامها لا يراعون في سياستهم الداخلية والخارجية اكثر من ظروفهم ومصلحة البلاد كما كانوا يرونها ، وكان لديهم احترام خاص ومستمر لمنصب الخلافة العثمانية في القسطنطينية وكانوا يسرعون لنجدته كلما طلب منهم ذلك.
يقول: “بهذه الصورة كان تواجدهم الى جانبه يشكل عاملا فعالا لمساعدة الأسطول العثماني في الإحراز على النصر، وبقي الامر كذلك حتى حلت الكارثة بالطرفين معا، وذلك في معركة نافارين، التي مهدت الطريق للفرنسيين كي يتجرأوا على غزو الجزائر بعد ذلك بثلاث سنوات”.
ويضيف: ” هي المناسبة، التي كانوا يترقبونها (الفرنسيون) بفارغ الصبر منذ ان كلفهم سريا حكام أوروبا بالقيام بعمل إنتقامي رادع ضد الجزائر في مؤتمر فيينا الشهير”، حيث استند المؤلف على الوثائق الإيطالية والإسبانية والفرنسية والإنجليزية والعثمانية.
يقول سبنسر: “إن قصة مدينة الجزائر، لهي إحدى الغرائب في حوليات حضارات البحر الابيض المتوسط، ولا تزال الأصول الأولى لعمرانها يحيطها الغموض، كما ان درجتها وسط كل من المدن القديمة والإسلامية ظلت ذات أهمية خلال الحقب الرومانية والبيزنطية والوندالية وخلال سيطرة العرب على الشواطئ الجنوبية للبحر الكبير”.
ويضيف: “إلا ان تلك الألف سنة من الغموض قد انتهت بسرعة عندما تطورت المدينة إلى قوة بحرية قاهرة في المنطقة الغربية للبحر الأبيض المتوسط خلال القرنين 16و17، فلم تكن مدينة الجزائر، مرعبة للأمم والشعوب المسيحية أكثر من رئيسها الإسمي، الباب العالي فقط، ولكنها استمرت توحي بجو من الأجبار والرهبة خلال الفترة الطويلة لتدهور القوة العثمانية”.
ووصف مدينة الجزائر بعاصمة دولة مستقرة وقوية في شمال إفريقيا.
ويشير الباحث الى ان الاستراتيجية البحرية للعثمانيين هي المسؤولة عن ظهور مدينة الجزائر كقوة من الدرجة الأولى، وما لفت انتباهنا هو ان المؤلف تحدث عن عقيدة الجهاد ومهنة القرصنة الشريفة عكس ما تداولته الكتب الفرنسية، التي شوهت تاريخ الجزائر في العهد العثماني.
وأكد ان قرصان مدينة الجزائر، كانوا أفضل اثناء قيامهم بواجبهم من اي فريق آخر، وهذا بشهادة الأوروبيين والرسميين العثمانيين، حيث وصل من بين قبطاناتهم أكثر إلى اعلى المراتب في الأسطول.
ويحتوي الأرشيف العثماني على تفاصيل قضايا طلب الزيادة في الأجور والعوائد من الخزينة الإمبراطورية لقراصنة بصورة فردية وكان يستجاب لتلك المطالب بصورة دائمة.
يؤكد سبنسر ان الجزائر كانت تشكل جزءا من الماضي الأوروبي المخجل، الذي كان ملوك أوروبا المنقسمون والمتناحرون يتنافسون على الأراضي والشهرة وقرصان الجزائر يهجمون عليهم.
ويتأسف عن انه بعد قرن من الإحتلال الفرنسي اصبحت المدينة المحروسة، في تقاليد البحر الابيض المتوسط بمثابة إحدى المدن اليورجوازية في الأقاليم الفرنسية وأراضيها الداخلية لا يمكن تفريقها عن أي منطقة زراعية أخرى وغنية في الوطن الأم.
ويشير الكاتب، إلى ان الجهود الكبيرة، التي حولت بواسطتها الجزائر إلى الجزائر الفرنسية، إضافة إلى القضاء الكلي على دولة الجزائر لا يجب ان يخفي أبدا الواقع المتمثل في المساهمات الهامة لتلك الأيالة في تطور الشمال الإفريقي ومكانته في حضارة البحر الابيض المتوسط.
جيش منظم وأسطول بحري قوي
يقول في هذا الصدد، :”إن الوثائق الرسمية الفرنسية والعثمانية بالدرجة الأولى، يضاف إليها تقارير الزائرين الآخرين تعطي صورة مختلفة للجزائر، تتفق كل شهادات المسيحيين والمسلمين على إعطاء الدولة الجزائرية علامات مرتفعة لما عرفته من الإنضباط والإستقرار وإحترام القانون والإرتباط الاجتماعي والمستوى الثقافي الذي بلغته.”
وقد كانت مدينة الجزائر، معروفة جدا لدى سكان القسطنطينية كمركز لأكثر الجيوش نجاحا في الأسطول العثماني، كما قامت المدينة بدور مماثل كمركز لإدخال العادات و أنماط الألبسة والتقاليد التركية إلى شمال إفريقيا، يقول سبينسر.
ويشير إلى أن الحقائق الوثائقية والمراسلات الدبلوماسية والمسكوكات أثبتت الإرتباط القوي للدولة الجزائرية بمنصب السلطنة العثماني.
ويضيف: ” جلبت غزوات القرصان الغنى الإقتصادي والثقافي بصورة غير مباشرة لمدينة الجزائر، وهذا بالرغم من ان قاعدتها التركية من حيث الهيكل العام لم يطرأ عليها اي تغيير خلال ثلاثة قرون لوجودها وقد كانت الأتاوات مصدر تشكي وتضايق لكل الأضداد الأوروبيين، الذين لم يكونوا ليشكوا لحظة في منجزات مدينة الجزائر”.
وبحسب سبنسر، مفتاح عظمة الجزائر في عصر القرصنة ربما يكمن في الوضعية الجذابة الخاصة بها، فقد كانت تبرز صورة وحيدة من نوعها في تاريخ البحر الابيض المتوسط، واستشهد بما قاله احد نبلاء فرنسا المدعو دوغرامي، حينما كان في طريقه سنة 1619 الى القسطنطينية في مهمة رسمية اعطى انطباعا حيا عن تلك الجاذبية، التي كانت لمدينة الجزائر في عز قوتها.
ويصف مدينة الجزائر، بأنها ذلك السوط المسلط على العالم المسيحي، إنها رعب أوروبا ولجام إيطاليا وإسبانيا وصاحبة الأمر في الجزر، وأن عدم قدرة الأوروبيين على النيل من الجزائر عن طريق القنبلة البحرية قد ساعد المدينة على الإحتفاظ بذلك الحمل الثقيل عليهم، يقول الكاتب.
ويضيف: ” بالنسبة لرؤساء دولة الجزائر، فكانوا دائما سادة لامعين وعظماء عاصمتهم جد محروسة ومكان يقظة دائمة وحرب ضد الكفار، لقد حافظت الجزائر على وضعيتها القانونية في البحر الأبيض المتوسط بناء على مساهمتها وعلى استغلالات القرصان”.
ويوضح في هذا الصدد، أنه من خلال حكومة الأيالة استطاعت المؤسسات العثمانية ان تأتي بالإستقرار للشمال الإفريقي، وادى كل من توارد الموظفين من الأناضول والإرتباط بالباب العالي إلى إدخال عناصر كثيرة من محتويات الحضارة العثمانية إلى غرب البحر الأبيض المتوسط.
وقد نتج عن معارك القراصنة، -حسب ما يذكره المؤلف- إمتزاج الأسلوب العثماني مع المغربي الساذج شمال إفريقيا والأوروبي سواء فيما تعلق بالأنماط الاجتماعية او الهندسية المعمارية او المهارات اليدوية وما إليها وان وجود طريقة منتظمة لجمع الضرائب ووجود فلاحة كفاف فعالة وكذلك التجارة المنتظمة جدا وفق القانون.
إضافة إلى الفوائد، التي كان يجلبها القرصان للأيالة كل ذلك أدى إلى وجود مستوى عال للمعيشة واراضيها كانت متجانسة ذات تسيير جيد وتشكل إمتزاجا إجتماعيا متعاونا وفعالا وهو ما يخالف تماما الوضعية، التي عرفتها البلاد خلال 130 عاما من المراقبة الفرنسية.
يؤكد الكاتب، ان الجزائر في أوج قوتها قامت بمبادرات جديدة في قضايا البحر الأبيض المتوسط سواء بالنسبة للأوروبيين او الحكومات العثمانية، وقدرتها على مواجهة أعدائها وهم متفرقون، وإن قابلية الأيالة الجزائرية على تحدي القانون السياسي المتعارف عليه لمدة طويلة ليبين بشكل واضح ليس فقط فعاليتها كدولة ولكن أيضا قوة ترابطها الإجتماعي، يقول سبنسير.
ويشير إلى أن ازدهار مدينة الجزائر جاء متأخرا بين مدن البحر الابيض المتوسط، وقد مرت بمرحلة من التعلم في ميدان التجارة البحرية قبل بروزها الفجائي وهي قوية، زيادة إلى الموقع الجغرافي، وذلك ما جعل الجغرافيين العرب يطلقون على موقع المدينة اسم الجزائر وفي التركية سزائير أي مجموعة من الجزر.
يصف الباحث، الجزائر، بأنها المأوى الواقي، الذي يسمح بإرساء مأمون فوق أرضية صلبة من الرمل الممزوج بالطين والتلال البارزة في أعلى الخليج، حيث شكلت مدرجا طبيعيا يصعب الدخول إليه عن الطريق الأرضي ويسهل تحويله إلى موقع دفاعي قوي ضد الهجوم البحري.
يقول:”هناك مصادر تربط الجزائر باسم إيكوسيوم، وهو ما يتعلق بإفتراض ضعيف لتجارة الحبوب لشمال إفريقية باتجاه روما، واخرون يقولون إن هذه التسمية قرطاجنية وذلك على افتراض ان توزيع مراكز التجارة الفينيقية، بحيث يفصل بين كل منها يوم واحد من الإبحار.”
لقد كانت كل من الجزائر أو إيكوسيوم، على درجة واحدة من الأهمية أيام الرومان، ومع استقرار العرب المسلمين الفاتحين في المغرب أسست قبيلة بني مزغنة البربرية بعد اعتناقها للإسلام مستقرا دائما وهو ما تطور إلى القصبة وميناء الجزائر وقد خرب الوندال إيكوسيوم، في زحفهم باتجاه الشرق خلال القرن الخامس.
ففي القرن العاشر كلف بلوغين بن زيري، وهو أحد ضباط الفاطمين حكم افريقيا (تونس) بحكم المغرب الأوس.
عمل بولوغين، على تقوية وتوسيع ثلاث مدن هي الجزائر ومليانة والمدية كمثلث ليضمن مراقبة المواصلات وطرق التجارة بين الساحل والتل ومنطقة السهوب، وقد عجز على احتلال المدينة في 1082.
ازدهار تجاري ومعماري
لقد ازدهرت مدينة الجزائر تحت حكم المرابطين وكانت إحدى المدن، التي ٱختيرت لتكريس الهندسة المعمارية المعبرة عن المذهب المالكي في الإسلام وذلك بين البنايات العامة للأمراء المرابطين، حسب ما تؤكده مصادر تاريخية.
وأشار الجغرافي البكري، إلى حركة الملاحين والتبادل التجاري عن طريق البحر في ميناء الجزائر مع الملاحين من إفريقيا واسبانيا وبلاد المسلمين.
ووصف الادريسي، بعده بقرن مدينة الجزائر، كمكان عامر جدا مع تجارة مزدهرة وهي مدينة تقع على جبل سهلي وتسكنه قبائل بربرية تشتغل بزراعة القمح والشعير وتربية الماشية والنحل .
ويذكر سيبنسر، استنادا لمصادر تاريخية عربية ان 41سفينة أرست في ميناء مدينة الجزائر، قادمة من موانئ الأرغونية ما بين 1308و1331، لقد كانت التجارة نشيطة مع أوروبا فهناك مكاتب لرجال الجمارك لتسهيل التبادل وحماية البضائع والتجار الأوروبيين من عنف السكان غير الخاضعين للقانون، وهذا ما جعل السفن الأوروبيين يثقون في أمانة الأعوان ويعملون بالتدريج على توسيع المخازن لبضائعهم، يقول المؤلف.
ويضيف:” لقد وجدت الخيوط الرفيعة في أوروبا وثيابها الصوفية والقطنية رواجا جاهزا في اسواق مدينة الجزائر، ففي القرن الرابع عشر كان شائعا في بيوت الطبقة الوسطى والعليا إستعمال خيوط الطرز البورغندية والمصنوعات الإيطالية وايضا إستعمال القماش الصوفي والقطيفة، والساتان والتافيتا من الصنع الإنجليزي”.
وكانت مدينة الجزائر وجاراتها تصدر الى اوروبا عدد من انواع البضائع، فقد كان هناك بعض التجارة في العبيد السود المجلوبين من إفريقيا وراء الصحراء إلى موانئ الشمال الإفريقي، وكان الإقبال على الخيول البربرية من طرف الفرسان والحكام الأوروبيين شديدا لما تشتهر به من التجلد بعد ان تكون قد دربت للحرب في الهضاب العليا.
دباغة بجاية تستهوي الإيطاليين
كانت دباغة بجاية، مطلوبة جدا في وسط الإسكافيين الإيطاليين لأعمالهم وكانت تعرف باسم Iscorza Di Buggiea،وذكرت بهذا الإسم في تسجيلات التعريفة لكل من بيزا والبندقية، منذ القرن الرابع عشر.
لقد كانت كل من بجاية ومدينة الجزائر وعنابة، بمثابة المخارج الرئيسية للشمع والعسل الموريطانيين في الصحراء الغربية، وقد اطلق على الشمع الموريطاني من طرف الفرنسيين اسم Cire de Bougie(لماع بجاية)،وهذا لنوعية خاصة من القضبان الشمعية المستديرة المستعملة للإضاءة.
إن التجارة بين مدينة الجزائر والموانئ الأوروبية كانت كثيفة بالدرجة الكافية مما كان يؤدي الى زيارات منتظمة للسفن التجارية الأوروبية، فعلى سبيل المثال كان شهر جويلية لقدوم السفن من البندقية وفلورنس، وكان عددها لكل من الجمهورتين يتراوح بين اربعة الى ستة.
ويشير الكاتب، إلى أن تشكيل الدولة الجزائرية كان نتيجة لأعمال أخوين عرفا في المأثورات الشعبية لمنطقة البحر الابيض المتوسط وفي التاريخ الأوروبي بالبربروسيين، الذين قدموا من جزيرة ميديلي، مقابل الساحل الإيجي، لتركيا وأكبر هؤلاء الإخوة هو أبو يوسف عروج بن يعقوب، يأتي بعده إلياس وإسحاق وخيضر (خزر)، الذي أطلق عليه اسم خير الدين، أي هدية الله. فقد اتبع هؤلاء الإخوة طريق العمل البحري منذ وقت مبكر.
dhakira.echaab.dz
1 comment
أحسنت النشر اخي العزيز هذه الشهادة التاريخية تجد مكانها الطبيعي على جزائر هوب