elkhabar.com
تؤشر الأجواء الآخذة في التشكل بولاية المنيعة في أعقاب إطلاق الدولة لقطار الاستثمار الفلاحي بولايات الجنوب، إلى أن المنطقة ستتحول في المستقبل القريب إلى سلة غذاء أساسية للجزائريين، في ظل انفرادها بمؤهلات المياه العذبة والأراضي الخصبة الشاسعة والمناخ الملائم والمردود المشجع في محاصيل الحبوب والذرى وجودتها العالمية، وحتى نوعية الفواكه التي غزت وسط وشرق وغرب البلاد، وانطلاق قطار الاستثمار في زراعات صناعية (دوار الشمس، البنجر السكري، القطن…) لأول مرة، تنفيذا لخريطة طريق السلطات العليا لجعل المنيعة وولايات الجنوب (20 ولاية) ضمن خطة توفير الأمن ألغدائي للجزائر، لكنه الاستثمار الذي يجب أن يكون محل رقابة ومرافقة حتى يستجيب للنظرة الاستشرافية المرسومة، وليس لخدمة منافع ذاتية.
ما وقفنا عليه؛ هو أن المنيعة بدأت تستعيد حقوقها كولاية كاملة الصلاحيات بالشروع في انجاز المدينة الجديدة واستفادتها من مخازن وصوامع تخزين الحبوب، لأول مرة.. إنها تستعد لتدارك مكانتها كـ (لؤلؤة الصحراء)، في انتظار صدور النصوص التنظيمية للعقار الاقتصادي الذي سيجعل من المنطقة وجهة للاستثمار الصناعي (صناعة تحويلية) والسياحي، بما سينعش التنمية ويمد الجسور بين جنوب البلاد وشماله، خصوصا وأن الولاية لها مؤهلات سياحية، فعلى أرضها يتقاطع جمال الطبيعة مع السياحة الدينية، ما يشد الزوار إليه بحبائل سرية وسحرية.
بعد نحو ساعتين من التحليق من الجزائر إلى المنيعة (870 كم) إلى جنوب العاصمة، حطت بنا طائرة الجوية الجزائرية بمطار القلعة بالمنيعة.
ثالث مطار
إنه ثالث مطار وطني من حيث النشأة، يقول بعض من أبناء المنطقة، تأسس في بداية خمسينيات القرن الماضي. وقد استغلت الإدارة الاستعمارية الفرنسية المطار على نحو فعال لتسويق المنتجات الزراعية إلى أوروبا بالنظر إلى ما كانت تزخر به المنيعة من ثروة مائية هائلة وعذبة، أكسبها شهرة عالمية بعد أن تحولت إلى قطب زراعي، حتى أطلق عليها آنذاك (لؤلؤة الصحراء).
فمن مطار (EL GoLea)، كما كان يسمى، وهو تصغير لاسم القلعة، شكل القصر القديم، كانت تسوق ورود المنيعة وبرتقالها إلى أوروبا وتصل على نحو خاص حتى للعائلة الملكية البريطانية. واستنادا إلى خطاطات تاريخية بحوزة الدكتور الباحث في التاريخ، عبد الرحمان نواصر؛ فقد ازدهرت زراعة الأزهار بالمنطقة، ولاسيما الزهرة الدمشقية التي استعملت في صناعة العطور ونظم من أجلها المؤتمر الدولي للأزهار والحمضيات سنة 1930، حضره أزيد من 40 شخصية عالمية من علماء وأعيان وسياسيين وصحافيين.
تهميش وإقصاء
وأينما حللت في المنيعة التي كانت تسمى قديما (تاوريرت)، وتعني بالعربية المكان العالي، ويحدها شمالا ولاية غرداية، وشرقا ورڤلة، وجنوبا عين صالح وغربا كل من تيميمون والبيض، يقدم لك أبناؤها شهادات تفيد بأن المنطقة كان لها حضور تاريخي كمشاركة ساكنتها في الثورات الشعبية والثورة التحريرية وصفحات مشرقة بجنوب البلاد، بدليل الشواهد التاريخية المادية بها مثل “القصر القديم”.
فيما يشير آخرون إلى أن المنيعة صنفت دائرة في التاريخ ذاته الذي رقيت فيه وهران إلى دائرة، بل وكانت بها أول ثانوية على مستوى الجنوب الكبير. وتشهد إطارات عديدة من الجنوب الكبير اليوم، على فضل هذه الثانوية عليها والحنين إليها، بينما يتساءل البعض الآخر عن المصير الذي لقيته المنيعة من تهميش وإقصاء منذ نصف قرن، في الوقت الذي كان يفترض أن تلقى مصيرا مشرقا بعد الاستقلال بالحفاظ على ميزتها كـ “لؤلؤة الصحراء”، بتحويلها إلى وجهة لتصدير “الزهرة الدمشقية” والحبوب والذرى والبرتقال والتفاح والعنب والليمون والأجاص والتمور.. الخ، وجهة يستخرج منها قيمة مضافة تكون بديلا لمتلازمة الريع البترولي.
بداية عهد جديد..
ومع ذلك، تلمس في أعين الصغير والكبير بمدينة المنيعة وضواحيها، ترقب يكسوه تفاؤل لما ستأتي به آفاق الصيرورة المستقبلية في أعقاب ترقية المنيعة إلى ولاية.. “إنه القرار الذي أثلج صدور كثير من الناس، ولاسيما بالنسبة لبعض من رجال المال والفلاحين الكبار وإطارات المنطقة والطلبة العاطلين عن العمل”، يقول أحد التجار.
وهو تفاؤل نابع من إيمان راسخ بانفراج الوضع، طالما أن ولايتهم تتوفر على إمكانات صناعة مستقبل واعد. ويرى الباحث عبد الرحمان نواصر، أن المنطقة تتوفر على إمكانات شق طريق نحو مستقبل زاهر.. “أول ميزة لهذه الإمكانيات؛ هو أن يتم الاستغلال الأمثل للمياه الجوفية، لأن المنيعة يعود فضل تواجدها إلى المياه، بالنظر إلى منابع المياه والفوغارات والآبار التي كانت بها، وثانيا إصلاح الأراضي الزراعية وفق ما يتماشى والتنمية المستدامة.. وثالثا، التركيز على المحاصيل التي لها علاقة بالأمن الغدائي والتجاري.. والميزة الرابعة، هي البعد السياحي، المكون من الآثار العلمية والسياحة الزراعية بحكم المزارع النموذجية الموجودة…”.
وتؤشر الأرقام التي بحوزة مديرية المصالح الفلاحية، إلى أن قطاع الفلاحة قادر على تسجيل نقلة نوعية في عدد من المحاصيل الإستراتجية، وحتى الزراعات الصناعية، بما يجعله يقدم قيمة مضافة للاقتصاد الوطني مستقبلا. واستنادا إلى أقوال مدير المصالح الفلاحية، مصباح يوسف؛ فإن الأراضي المستغلة حاليا في الزراعة تتربع على مساحة 52 ألف هكتار، وهي مساحة مسقية، منها 18 ألف هكتار للحبوب بأنواعها، القمح الصلب واللين والشعير والشوفان، فيما تستغل المساحة الباقية في زراعة النخيل والأشجار المثمرة والخضر والفواكه والبطاطا والأعلاف.
نحو إنتاج ما يفوق 5، 2 مليون قنطار
فبالنسبة للحبوب، يقدر المردود المتوسط بـ 48 قنطارا في الهكتار، فيما سجل مردود قياسي خلال الموسم الفلاحي الماضي، يفوق 75 قنطارا في الهكتار ذات جودة عالمية. ويقول المدير “نطمح على المدى المتوسط للوصول إلى مساحة 50 ألف هكتار للحبوب بإنتاج يفوق 2,5 مليون قنطار”.
ويترجم هذا المؤشر في التوجه نحو توسيع المساحات الخاصة بشعبة الحبوب، الرد على التحدي الذي مازال يضغط بثقله على الدولة، المتمثل في فاتورة استيراد الحبوب من قمح لين وصلب وشعير… الخ، التي لا تزال تشكل عبئا على ميزانية الدولة، باستيراد ما يعادل 12 مليون طن سنويا بقيمة ثلاثة (3) ملايير دولار.
وتنظر الدولة، اليوم، إلى المنيعة على أنها واحدة من أبرز المحافظ العقارية في الجنوب المعول عليها لتنفيذ خطة ما تسميه الأمن الغذائي: “الدولة تعول على المنيعة في مجال زراعة الحبوب وتطوير الزراعات الصناعية، مثل دوار الشمس والبنجر السكري…”. لذلك، يرتقب أن ينتعش مجال الاستثمار في هذه الزراعات الصناعية مستقبلا، خصوصا وأن التجارب التي تمت في مجال زراعة البنجر السكري على مساحة 40 هكتارا، ودوار الشمس على امتداد 6 هكتارات، أعطت نتائج مقبولة وواعدة، في مؤشر واضح إلى أن الأرض معطاءة تنتظر من يتبادل معها غناها وثراءها. فيما يتنامى من موسم فلاحي لآخر، التوجه نحو زراعة البطاطا التي قفزت مساحتها من 500 هكتار إلى 1400 هكتار خلال موسم 2022/2023، بالنظر للمنتوج المعتبر بمعدل 360 قنطار في الهكتار في ظل وفرة المياه.
ظاهرة فواكه المنيعة
وموازاة مع ذلك، برزت في الأفق ومنذ سنوات، المؤشرات الايجابية للاستثمار في منظومة الحوامض، كالعنب والبرتقال والأجاص والبطيخ والدلاع على نحو لافت، وباتت هذه الفواكه تغزو أسواق العاصمة وولايات شرق وغرب البلاد، مستفيدة من ترويج مجاني نظير نوعية المنتوج الذي تفوّق على باقي منتوجات الولايات الأخرى، حتى أصبحت المنيعة حاضرة بقوة في المخيال الجماعي للجزائريين.
ويضع والي المنيعة، مختار بن مالك، المنطقة ضمن خانة المناطق المحظوظة القادرة على تحقيق قيمة مضافة للاقتصاد الوطني: “فالموقع الإستراتيجي الذي يتوسط جنوب البلاد وشماله، وتربتها الخصبة الشاسعة والغنية، والمياه العذبة والمناخ الملائم، جعلت من المنيعة نقطة جذب في مجال الاستثمار الفلاحي والزراعة الصحراوية، بل جعلها قطبا فلاحيا يعول عليه كثيرا في تأمين المستقبل الغذائي للجزائر..”.
وشهدت التقنيات المستعملة، حسب مدير المصالح الفلاحية، مثل (محاور الرش والتقطير) تطورا، ويرتقب أن تعرف طفرة آخري من التطور والتوسع، في ظل ما يسميه “وجود إرادة وجدية من قبل السلطات العليا للمضي على نحو جدي للاستثمار في الزراعة الصحراوية”، وهي محاور (pivots) تغطي بين 30 إلى 50 هكتارا.. وقال: “إن النشاط الفلاحي اليوم بالمنيعة، دخل مرحلة الاستثمارات الكبرى ممن تفوق 1000 هكتار، وهي استثمارات إستراتجية تتعلق بزراعة الحبوب والأعلاف والبطاطا، وتربية الأبقار الحلوب، فضلا عن استثمارات بشراكة أجنبية، وبالتحديد بين سعوديين وقطريين وجزائريين..”.
وقد توجت، لأول مرة، جهود أحد مربي الأبقار بانجاز ملبنة باتت تمون الساكنة بالحليب، فيما يرتقب أن ترى الملبنة الثانية لمستثمر آخر، النور قريبا، في وقت انتعشت، موازاة مع ذلك، تربية الإبل والغنم والماعز. ويرتقب المسئول ذاته، أن تعرف الفئات الشبانية انخراطا في قطاع الفلاحة قريبا، في ظل وجود ما يسميه “برنامجا طموحا يخص توزيع الأراضي على المؤسسات الناشئة خلال السنة المقبلة”.
نداء للمستثمرين الكبار
وباتت المنيعة، منذ 2020، وجهة مفضلة لمستثمرين كبار، على نحو أنعش قطار الاستثمار الفلاحي إلى حد ما، ويرى مدير الديوان الوطني للزراعة الصناعية في الأراضي الصحراوية الذي يشرف على هذا الجهاز عبر 20 ولاية، بينها المنيعة، أن الفضل يعود لهذا الديوان الذي أنشئ في 22 سبتمبر 2020 بمرسوم تنفيذي، إذ وإلى غاية اليوم تم توزيع 4 محافظ عقارية عبر التراب الوطني تعادل 450 ألف هكتار، حازت فيها المنيعة على نحو 100 ألف هكتار
.
وبدا المدير حريصا على تسريع قطار الاستثمار في الزراعات الصناعية والإستراتجية، ولاسيما بعد إنشاء الرواق الأخضر، الذي يهدف إلى تحفيز المستثمرين الكبار وتشجيعهم ومرافقتهم وقال: “إننا نوجه نداء للمستثمرين الكبار ممن لهم إمكانيات مادية كبيرة ومؤهلات تقنية، للتقرب من الديوان للتسجيل في برامج الاستثمار قصد الإسهام في تطوير الاقتصاد الوطني، أي الانخراط في الإستراتيجية التي انتهجها رئيس الجمهورية للحد من فاتورة الاستيراد…”.
ولأجل ذلك، قرر الرئيس تبون منح المنيعة حصتها من مخازن وصوامع تخزين الحبوب، لأول مرة، بانجاز 11 مخزنا بسعة 550 ألف قنطار عبر ثلاث (3) بلديات، وصوامع بسعة 1 مليون قنطار بالمنيعة، حسب الوالي مختار بن مالك.
ويشمل الاستثمار الفلاحي، القمح والشعير، الذرى العلفية، الزيوت النباتية، البنجر السكري، عباد الشمس، البطاطا، القطن، تربية الأبقار الحلوب. ومع آن المدير يرسم لوحة مشرقة عن مستقبل الفلاحة بالمنيعة بالنظر للمؤهلات المتوفرة؛ كالتربة الخصبة والأراضي الشاسعة والمياه العذبة والمناخ الملائم، المتواجدة غالبيتها بإقليم بلديتي حاسي الغارة وحاسي لفحل، إلا أن المدير يثير واحدة من الظواهر المتمثلة في التخلي عن النشاط، رغم الاستفادة من الأرض، وقال: “نحن نتبع قاعدة الأرض لمن يخدمها، لكن هناك من استفاد من محيطات فلاحية ولم يشرع بعد في الاستثمار، نتيجة لذلك وصلتنا تعليمات اتخذت في مجلس الوزراء الأخير، تقضي باسترجاع هذه الأراضي، وقد شرعنا في إلغاء عدة استفادات من محيطات..”.
ومع ذلك، يعترف أن الإمكانيات البشرية والتقنية التي بحوزة الديوان الوطني للزراعات الصناعية، غير كافية لتغطية الـ 20 ولاية الصحراوية.. ، ما يعني أن الجهاز لا يمارس دوره ومهامه على أحسن وجه.
لا رقابة ولا مرافقة
ويثير النائب في البرلمان عن ولاية المنيعة، عبد الحميد بلكحل، بعض التناقضات التي تسكن بيت الديوان الوطني للزراعات الصناعية في الأراضي الصحراوية، ويرى أن “هذا الديوان لما أنشأته الدولة كانت تهدف إلى إيجاد بديل للنفط على أمل الحد من استيراد بعض المواد الصناعية التي تستهلك العملة الصعبة مثل الزيت، الطماطم المعلبة، العطور، الزيوت النباتية، القطن… فالديوان قبل أن يسلم الأرض يفترض منه أن يقوم بتهيئتها وتعبيد المسالك الموصلة إليها وتموينها بالكهرباء، فالمستثمر اليوم يجد صعوبات في تهيئة الأرض وتعبيد المسالك وإدخال الكهرباء…”، قبل أن يضيف “هناك بعض المستثمرين اعتذروا عن استصلاح الأرض لصعوبتها؛ لأنها تتطلب أموالا ضخمة..”.
أما الأمر الثاني، يضيف: “الديوان يفترض منه أن يكون مخصصا للزراعة الصناعية، لكن اليوم أصبح جل المستثمرين والفلاحون المستفيدون من قطع أرضية يزرعون منتجات فلاحية ليست صناعية، نتيجة غياب نظرة استشرافية ورقابة ومرافقة مباشرة للمستثمر والفلاح لتحقيق أهداف هذا الجهاز، لذلك فهو اليوم خرج عن مهامه..”.
وكان الوالي في حديث لـ “الخبر”، أكد أن ربط المحيطات الفلاحية بالكهرباء وتعبيد المسالك المؤدية إليها، هما عمودي الفلاحة بالجنوب، إن تجسدا، تحققا معهما الإنتاج.. وإن غابا، غاب معهما.
وتسكن النائب قناعة مفادها أن “وزارة الفلاحة يجب أن تكون لها إستراتجية بولاية المنيعة، خصوصا وأن هنالك استنزافا للمياه الجوفية بشكل رهيب، في وقت غابت فيه مكاتب دراسات لحفر الآبار، بل هناك حفر عشوائي لها، فالفلاح اليوم لا يتبع خطة الدولة ويبحث فقط عن منافعه الخاصة..”. ويرى أنه “لابد من إنزال وزاري بالولاية للوقوف على كافة انشغالات قطاع الفلاحة، طالما أن المنيعة قادرة على أن تتحول إلى سلة غذاء الجزائر بامتياز..”.
وزراء لا يزورون المنيعة
ويتساءل مستثمرون في هذا السياق عن سر عزوف وزراء الفلاحة عن زيارة المنيعة للوقوف على انشغالاتهم، في وقت يلح فيه الرئيس تبون في كل مناسبة على وجوب الاهتمام بهذه الولاية الفلاحية، بينهم من انخرط في تربية الأبقار ممن يقولون إن “المنيعة قادرة على تحقيق اكتفاء ذاتي لعديد الولايات في مادة الحليب، فيما يطالب آخرون الدولة بالالتفات من حولها لفتح باب الاستثمار في الصناعة التحويلية (تعليب التمور، الجبن بأنواعه، تعليب الطماطم، العصير، المربى بأنواعه…”. يحدث ذلك في وقت يأمل فيه الشارع بالمنيعة أن تدخل الشركات الوطنية الكبرى على الخط للاستثمار في المجال الفلاحي، كسوناطراك بفروعها، على نحو ما فعلت بخنشلة وأدرار وورڤلة… في ظل انحسار سوق الشغل.
بل وأينما حللت في المنيعة تجد الناس تتساءل عن سر: لماذا لم تر المدرسة العليا للفلاحة الصحراوية النور إلى غاية اليوم، رغم أن وزارة التعليم العالي قدمت مشروع مرسوم تنفيذي يوم 7 مارس 2023 يتضمن إنشاء هذه المدرسة، كما اقترحت الوزارة نفسها ضمن مرسوم تنفيذي آخر انجاز المدرسة العليا لتكنولوجيا الفلاحة الغذائية بالمنيعة، لكنها لم تر النور هي الأخرى إلى غاية اليوم؟
ملهاة ومأساة
ويطرح رئيس بلدية حاسي الغارة، عبد المالك سعيدات، واحدة من التناقضات التي تختزل الملهاة والمأساة التي تعيشها ساكنة مدينة المنيعة وباقي بلدياتها، ويقول “المستثمرون والفلاحون يستغلون، اليوم، المياه العذبة والأراضي الخصبة في محاصيلهم الزراعية، وبعدها يبيعون منتوجاتهم في ولايات أخرى، وأهل المنيعة يتفرجون ولا يستفيدون بتاتا من هذه المحاصيل..”، وتابع “نعيب على المستثمرين عدم تسويق منتوجاتهم في السوق المحلي للمنيعة، المواطن في المنيعة لا يطيق أسعار الخضر والفواكه الملتهبة، مع أنها تنتج على أرض ولايته، بل إن الأمر ينطبق أيضا حتى على المنطق الذي يتبعه الموالون (مربو الماشية). وما وقفنا عليه؛ هو أن أسعار التمور والبرتقال والتفاح والأجاص مرتفعة على نحو لافت عما هي عليه بعدد من أسواق العاصمة.
وإلى ذلك، يطالب أعيان المنطقة وبعض الجمعيات ومنتخبون محليون بضم ولاية المنيعة إلى ولايات الجنوب الكبير، قصد الاستفادة من بعض الامتيازات كإعانة الفلاحين، تخفيض الضرائب، تخفيضات بشأن فواتير استهلاك الكهرباء، وأخرى تخص تذاكر التنقل عبر الطائرة، وأيضا مزايا العمل بالجنوب.. الخ.
واستنادا للإحصائيات الناتجة عن دخول قانون الاستثمار الجديد رقم 22/18 المؤرخ في 24 جويلية 2022، التي قدمت لنا من قبل المكلفة بتسيير الشباك الوحيد اللامركزي للمنيعة التابع للوكالة الوطنية لتطوير الاستثمار، صليحة بن يحيى، فإن قطاع الفلاحة يتصدر قائمة الملفات المودعة لدى الشباك بـ40 ملفا على مدى الفترة الممتدة بين 16/11/ 2022 إلى 20/12/2023، ويلي في المرتبة الثانية قطاع البناء والأشغال العمومية بـ4 ملفات، ثم قطاع النقل ولواحقه بـ3 ملفات، ثم يأتي قطاع الخدمات والصناعات الغذائية بملف لكل منهما، أي عرفت هذه الفترة إيداع 49 ملفا استثماريا أسهم أصحابها في توفير 397 منصب شغل، بينها 325 في قطاع الفلاحة.
الصناعة والسياحة ستنتعشان
وترتقب المسؤولة ذاتها، أن يعرف الشباك الوحيد اللامركزي للمنيعة، إقبالا كبيرا للمستثمرين في الميدان الصناعي والسياحي، وتقول: “في انتظار صدور النصوص التنظيمية للعقار الاقتصادي، سوف يعرف شباك ولاية المنيعة توافدا كبيرا للمستثمرين، خصوصا وأن الشباك يسهر على تسهيل عملهم ودراسة ملفاتهم، وكذلك ملفات العقار الصناعي…”، قبل أن تضيف “الشباك الموحد يتكون أيضا من ممثلين عن الإدارات المحلية قصد تسهيل إيداع الملفات، المستثمر لا يمر على هذه الإدارات، فالشباك هو من يتدخل في حال اصطدام المستثمر مثلا بعراقيل على مستوى مصلحة الضرائب أو السجل التجاري.. بل نحن نقدم لهم مزايا جبائية وشبه جبائية في إطار هذا الجهاز..”.
ويهدف قانون الاستثمار الجديد إلى تحديد القواعد التي تنظم الاستثمار وحقوق المستثمرين والتزاماتهم، والأنظمة التحفيزية المطبقة على الاستثمارات في الأنشطة الاقتصادية لإنتاج السلع والخدمات المنجزة. ويعني ذلك، أن الأجواء الآخذة في التشكل، هي أجواء تعبيد الطريق أمام بروز صناعة تحويلية تسهم من جهتها في صنع الثروة وامتصاص ما يمكن امتصاصه من العاطلين عن العمل.
تجاوزات في التشغيل
ما لمسناه في أوساط الشباب العاطل عن العمل، أنه ينام ويستيقظ على قناعة؛ مفادها وجود تجاوزات في التشغيل بعدم احترام القانون الذي ينصص على أولوية تشغيل أبناء المنطقة، رغم عديد الشكاوي المقدمة لمفتشي مديرية التشغيل. ويقولون إن الأمر ينطبق على بعض الشركات بمنطقة الخشيبة، أين يتواجد مركب إنتاج الغاز، التي تأتي بالعمال بطرقها الخاصة دون المرور على وكالة التشغيل، في وقت باتت ظاهرة تشغيل الشباب القادم من النيجر ومالي.. الخ، هي السمة البارزة لدى أغلب المستثمرات.
ويقول مدير التشغيل، بومدين رملي، الذي استقبلنا بمكتبه: “رغم وجود قطب صناعي بإقليم حاسي الغارة بولاية المنيعة، إلا أن له تبعية لعين صالح ولا يغطي احتياجات الشغل، لتبقى الفرص محدودة ومقومات الولاية يسيطر عليها الطابع الفلاحي..”. ويشير إلى أن طلبات العمل سنة 2023 قدرت بـ9328 طلب، فيما لم تتعد العروض في السنة ذاتها 1135 عرض، واقتصر تنصيب العمال خلال الفترة الممتدة من جانفي إلى شهر نوفمبر الماضي على 457 منصب.
وأرجع شح عروض العمل إلى عدة صعوبات، بينها “عدم برمجة تواريخ الفحوصات المهنية وتأخر نتائجها، والثالث هو التأخر في تنصيب العمال، آي هناك من نجح في المسابقة ولم يستدع بعد للعمل، فضلا عن تحايل مؤسسات المناولة (كاثرينغ) وبعض مؤسسات الحراسة في إيداع عروض عمل وهمية من أجل اللجوء إلى عملية التوظيف المباشر دون احترام إجراءات الوكالة الوطنية للتشغيل..”. ومع ذلك، يقر بنقص في عملية تحسيس الشباب للعمل بقطاع الفلاحة، فضلا عن تفضيل الفئة هذه للعمل المأجور.
ويرتقب أن يعرف سوق الشغل انفراجا على المدى القريب والمتوسط، من جانب دخول عدة هياكل ولائية حيز الخدمة قريبا، المتمثلة في (épiques)، البالغ عددها 25 هيئة، ما سيسهم في إنشاء فرص عمل دائمة، إلى جانب الفرص التي ستخلقها المؤسسات المصغرة التي تم تحويلها عن طريق آليات الدعم (أنساج، كناك، أونجام) على المدى المتوسط والبعيد، وصولا إلى تلك التي ستدخل مرحلة الاستغلال في منطقة النشاطات، لاسيما في مجال الصناعة التحويلية.
وموازاة مع ذلك، رفعت السلطات العليا التجميد عن المدينة الجديدة المنيعة وتم الشروع في انجاز أول مشروع على أرض المدينة، في نوفمبر الماضي، وهي عيادة متعددة الخدمات. كما شرع في انجاز شبكات المياه والتطهير، فيما توشك الدراسات الخاصة بباقي المرافق العمومية على نهايتها. واستنادا للمجسم المعروض بمديرية المدينة الجديدة (épic)، فإن المدينة تضم مسبحين، المسبح الأولمبي ومسبح الشمال، الإقامة السياحية، قصر المؤتمرات، قاعة متعددة الخدمات الصحية، متحف الصحراء، الجامعة، قاعة متعددة الخدمات، محطة النقل البرية، مؤسسة الأمن الحضري، المستشفى، المحكمة، السوق المركزي، الحي الرياضي، المسجد، مكتب البريد، مجلس القضاء، أي مدينة بكامل الصلاحيات، تكون نقطة عبور بين الجنوب الصحراوي وشماله، يقول الوالي.
الطبيعة.. الوجه الساحر للمنيعة
ومع ذلك، على أرض المنيعة ما يستحق الحياة، حيث تتقاطع سلطة الطبيعة وجمالها مع المعالم الدينية والتاريخية، لتشكل وجهة سياحية جذابة، قادرة على تقديم قيمة مضافة للولاية، إذ بوسع الزائر أن يسيح في الأرض ليكتشف مسارات مناخية صحراوية بتأمل البحيرات والسبخات الزرقاء في عمق طبيعة صحراوية.
بين هذه البحيرات، نجد البحيرة المالحة (سبخة الملاح)، بالناحية الجنوبية لحاسي الغارة وصنفت محمية طبيعية في ماي 2002 وكمنطقة رطبة وفقا لاتفاقية (رامسار) في ديسمبر 2004، تستقطب إليها أنواعا عديدة من الطيور المهاجرة، قادمة من أوروبا، تتربع على 7000 هكتار، منها 1800 هكتار هي مسطح مائي، ينقسم إلى قسم علوي به مياه عذبة، وسفلي مياهه مالحة. أما بحيرة الـ40 كم، كما تسمى، فتقع بالجهة الجنوبية باتجاه تيميمون، تحيط بها كثبان رملية، تمتاز بمياهها الصافية ذات الملوحة العالية، ثم بحيرة الـ25 م، المسماة ببحيرة فايجة التركي المحاذية للكثبان الرملية، ويكتمل المشهد الرائع بحقول وردة الرمال الواقعة على بعد 60 كم، 25 كم منها شمالا باتجاه غرداية، و35 كم شرقا باتجاه منطقة مشقردل.. وكلها امتداد لمسار واد (صقر).
“هنا وقف الرئيس بومدين..”
وبوسع الزائر للمنيعة، أن يكتشف حديقة (فورام)، هي حديقة آو واحة، بها مجموعة متنوعة من النباتات والأشجار، كالنخيل والحوامض والورود وجناح للحيوانات الأليفة. يتوسط الحديقة التي تعد غاية في التنظيم والجمال، بحيرة صغيرة ومسبح للعائلات، وهي حديقة مفتوحة على مدى أيام الأسبوع للعائلات، وحتى السياح القادمين من داخل وخارج الوطن. هذا (الفورام) أو الحديقة، بها إقامة ومكتبة تضم 50 آلف كتاب، مازال يتردد عليها إلى غاية اليوم غالبية الممثليات الدبلوماسية المعتمدة بالجزائر. قبالة هذه المكتبة التابعة لـ (الفورام)، يوجد نصب تذكاري كتب عليه “هنا وقف الرئيس هواري بومدين مع الرئيس الموريتاني ولد دادة، والرئيس المالي موسى طراوري، والرئيس النيجيري حماني ديوري، لتدشين طريق الوحدة الإفريقية..”. كما تستوي هذه المسارات السياحية الطبيعية على مضامير للسباقات الميكانيكية، إذ ينظم نادي الغزال الصحراوي (رالي) سنويا، إلى جانب الطيران الشراعي، الخيول، الإبل.. الخ.
آما المسارات الحضرية والتاريخية والدينية (مؤهلات)، فتتمثل في القصر القديم، وهو أهم وأكبر المعالم المعمارية الحضرية ويعتبر رمزا للولاية، أطلقت عليه عدة تسميات (تاوريريت) و(القليعة)، ثم المنيعة نسبة إلى كونه منيعا على الأعداء، لأنه يقع في أعلى قمة جبلية، أسس بين القرن التاسع والعاشر الميلادي من طرف قبيلة زناتية وبه مسجد.
وكان آخر من سكن القصر قبيلة الأميرة الهلالية مباركة بنت الخص، إلى غاية احتلاله من قبل الاستعمار الفرنسي سنة 1873. وتم تصنيفه معلما أثريا وطنيا سنة 1995، ويقدم المتحف العمومي الوطني الكائن بقلب المدينة أوعية مادية أثرية تشهد على أن المنيعة كان لها حضور.
الزوايا والكنيسة الكاثوليكية
إنها أرض يتقاطع فوقها الدين مع التاريخ، إذ بوسع الزائر اكتشاف سياحة دينية، متمثلة في الزوايا، أشهرها وأبرزها، زاوية سيدي الحاج يحيى بالمنيعة، والمسجد العتيق، زاوية مولاي عبد الله الرقاني، زاوية الشيخ عبد الرحمان السهلي، سيد الحاج بحوص… الخ، تعلم أصول الدين وحفظ الهوية الإسلامية وتقديم خدمات كإيواء وإطعام المريدين، بل تسمى المنيعة بمنطقة الـ 44 واليا صالحا.
إنها أرض لتعايش الديانات والثقافات على نحو مثالي، إذ ساعد وجود الكنيسة الكاثوليكية بالناحية الشمالية الغربية للمدينة، وهي أول معبد بناه الاستعمار الفرنسي بالجنوب الجزائري سنة 1918، في تدفق مزيد من السياح الأجانب.
ويقول مدير السياحة إسماعيل لبصير: “إن مسار(القوليا) هو أحسن المسارات السياحية، يستقطب إليه كثيرا من السياح الأجانب القادمين من ايطاليا، وفرنسا، وألمانيا، وبولونيا، وهنغاريا بلجيكا، واليونان، والفلبين انجلترا، وأستراليا، وكوبا، وقبرص، والهند، وتركيا، والبرتغال، والبرازيل، وسويسرا، وبورتيريكو، والدومينيك… تونس، ولبنان، والأردن، وماليزيا، والسعودية، والسودان… بسبب وجود الكنيسة الكاثوليكية والقصر القديم.
إذ تعد الكنيسة من الآثار القديمة التي تتواجد بجانبها مقبرة الأب شارل دوفوكو، أحد أهم القديسين، ما جعل الكنيسة تتحول إلى قطب سياحي خاص بالأجانب تمارس فيه الأخوات نشاطهن وتعشن فيه إلى غاية اليوم. بينما يحتل المسار السياحي (واد صقر)، المرتبة الثانية من حيث الأهمية المتضمن حديقة (فورام) والبحيرات. ولا يزال الولوج إلى المسارات هذه مجانا لعدم وجود فرع لديوان الثقافة والسياحة. وترتب مديرية السياحة حاليا، لتكوين مرشدين سياحيين، إذ يرتقب أن تجتمع لجنة ولائية قريبا لتحضير برنامج محين، خصوصا وأن هناك 18 مشروعا سياحيا حاز على الموافقة الوزارية، تشمل هياكل إيواء، بينها فنادق وخيم، ومخيمات صحراوية.
وللمنيعة لمستها في صناعة الفرجة وإثارة فضول السياح؛ عبر الفنون الشعبية الماثلة في ألعاب تقليدية وفرق فلكلورية من بارود وقرقابو.. سباقات ركوب الخيل والجمال، وتكتمل الصورة بالأجواء التي تخلقها الأعياد، عيد القصر القديم، عيد التمور والورود.. الخ.