تستقطب المعالم العربية المعروضة في “جامع الجزائر الأعظم” مئات الزوار، بينهم الوفود الرسمية المشاركة في القمة العربية. أما تخصيص “الحديقة الإسلامية” لهذا المعرض تزامناً مع انعقاد القمّة، لم يكن عبثيا
لى الساحل الشرقي للعاصمة الجزائر، يخطف “الجامع الأعظم” أنظار المارّة، وقد جمعت أكبر حدائقه معالم من كل الدول العربية، في معرض منمنمات، ينقّل زواره بين قارتين، من المغرب الكبير إلى الشام والخليج، مخترقاً الحدود، ملغياً جوازات السفر وتأشيرات العبور.
وتقف مئذنة “الجامع” بشموخ لا تضاهي علوّه أي مئذنة أخرى في العالم، قبالة شاطئ الحراش.
تتلاطم الأمواج في هدوء، كأنما تحاول محو آثار ماضٍ قريب، ساق إلى هذه الأرض غُزاةً، عملوا على اجتثاث أهلها من عقائدهم الدينية، وهويتهم الأمازيغية والعربية.
تخصيص “الحديقة الإسلامية” لهذا المعرض تزامناً مع انعقاد الدورة العادية الحادية والثلاثين لقمّة جامعة الدول العربية، لم يكن عبثياً، فهذه الأرض، التي أقيمت عليها مجسّمات مصغّرة لأهرامات وأبراج وقلاع وقصور ومساجد، تمثّل حضارات العرب وحاضرهم، كانت ذات يوم مقرّاً لأكبر مركز تبشيري في شمالي أفريقيا، “كنيسة لافيجري”.
من هنا بالضبط انطلقت بعثات التبشير الفرنسية “الآباء والأخوات البيض” نحو تونس والمغرب الأقصى والسودان، وأفريقيا الوسطى، قبل ما يزيد على قرن من الزمان.
“المحمّدية” تقرّب بين الشعوب العربية
في “الحديقة الإسلامية” إحدى الحدائق الثماني عشرة للمسجد، حيث غرست الأشجار المذكورة بالقرآن، تقابلت مئذنة “جامع كتبية مراكش” المغربي مع “مقام الشهيد الجزائري” في شموخ، تلاشت أمامه الحدود الجغرافية والحساسيات السياسية.
وبجوارهما “برج الساعة” التونسي، وقصر “السرايا الحمراء” الليبي، و”البيت الولاتي” الموريتاني.
وغير بعيد عنهما تربّعت “قبّة الصخرة” على ساحة “المحمدية”، في هيبة لا يكسرها احتلال ولا يقتحمها مستوطنون، وقد انتصبت تحرسها “أهرامات الجيزة” المصرية، و”برج ساعة الحميدية” اللبنانية، و”مدينة البتراء” الأردنية.
وحضر “قصر العظم” السوري، مغطّياً على غياب رسمي لدمشق عن الوفود الرسمية المشاركة في القمة العربية.
وفي الطرف المقابل عادت “بوّابة عشتار” العراقية، مشرّعة أمام “أبراج الكويت”. و”برج السعودية”، و”برج العرب” الإماراتي جنباً إلى جنب مع “قصر دار الحجر” اليمني.
وغيرها من المعالم في ساحة جمعت حضارات العرب وحاضرهم، من اثنتين وعشرين دولة، في صورة سيميولوجية تحمل كثيراً من الدلالات.
في حديث إلى الميادين نت يرى أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر البروفيسور محمد لحسن زغيدي أن “المعرض يتضمّن رسائل رمزية للشعوب العربية ولحكامهم في المقام الأول، خصوصاً أنه يتزامن وذكرى اندلاع ثورة 1954، التي تعد انتصاراً لكل البلدان العربية وليس للجزائر فحسب، كما كان الاستعمار عدوّاً مشتركاً يهدّد جميع الدول العربية، ويعمل لطمس هويّات شعوبها، وجعلها تابعة للغرب جميعها من دون استثناء”.
جاءت فكرة هذا المشروع الفني الثقافي بحسب مؤسسة “فنون وثقافة” المكلّفة إنجاز المجسّمات، من أجل “التقريب بين الشعوب العربية والتعريف فيما بينها”، مثلما يؤكّده لـلميادين نت نزيم حمادي مدير المؤسسة التابعة لوزارة الفنون والثقافة الجزائرية.
تستقطب المعالم العربية المعروضة في جامع الجزائر مئات الزوار، بينهم الوفود الرسمية المشاركة في القمة العربية.
تشدّ بعض المجسمات الانتباه أكثر من سواها، بتفاصيلها الدقيقة التي تحاكي نظيرتها الأصلية لأبعد الحدود، فترى العشرات يقفون أمام قبّة الصخرة المقدسية، وقصر العظم الدمشقي، وبوابة عشتار البابلية، ودار الحجر اليمنية، التي أبدع النحاتون في تشكيلها.
من “لافيجري” إلى “المحمّدية” قصّة منارة محت آثار “الغزو الديني”
امتزجت الحضارات القديمة بفنون العمارة الإسلامية، والهندسة المعاصرة، فوق رقعة لها “مكانة خاصة جداً لدى الجزائريين”.
فبين مدّ وجزر تسرد أمواج الشاطئ المقابل حكايات تعود إلى زمن الحروب الصليبية، و”الجزائر المحمية بالله”.
يقول المؤرخ والأكاديمي محمد الأمين بلغيث في حديث إلى الميادين نت إن سواحل “الحرّاش” و”الحامّة”، عرفت واحدة من أكبر حملات الغزو في شمالي أفريقيا.
ففي عام 1541 أعلن الملك الإسباني كارلوس الخامس “شارلكان” غزواً صليبياً للجزائر، باسم “الإمبراطورية الرومانية المقدسة”.
“أسطول بحري من ثمانين سفينة، مئات البحّارة وعشرات الجنود، في مواجهة أهالٍ أثارت أسلحتهم البسيطة سخرية الملك شارلكان”، وفق الأمين.
ويضيف: “لكنّ الأهالي لم يستسلموا.. استمروا في المقاومة، حتى أتاهم الدعم الإلهي على شكل عاصفة بحرية أغرقت أسطول شارلكان، وأفقدت الإسبان تاج ملكهم إلى الأبد، بعدما ضاع منهم في شواطئ الجزائر، التي أصبح يطلق عليها المحمية بالله”.
تجدّدت غارات الغزو مرّة أخرى صيف 1830 على يد الفرنسيين، الذين تمكنوا هذه المرة من احتلال الجزائر.
في 1868 أسّس الأسقف الكاردينال شارل مارسيال لافيجري على هضبة “الحْرّاش” جمعية “الآباء البيض”، ثمّ “مجمع الراهبات التبشيريات للسيدة الأفريقية”، وشكّلتا حينذاك أكبر مركز تبشيري في القارة السمراء، التي مُنح “لافيجري” لقب “رئيس أساقفتها”.
يقول البروفيسور محمد لحسن زغيدي إن القسّ الفرنسي عندما انتهت أشغال بناء دير الآباء البيض، نادى مستهزئاً: “أين أنت يا محمد؟ فأتاه الردّ بعد الاستقلال، حينما خرجت الحشود تصدح: يا محمد مبروك عليك.. الجزائر رجعت ليك”.
ومن هنا حملت المنطقة اسم “المحمدية” بدلاً من “لافيجري”، ومحت أثارَ كنيستِه مئذنتُها، التي تناطح السحاب بارتفاع 265 متراً، مقسّمة على 43 طبقة عليا، وطبقتين أرضيتين، تضمّ مراكز أبحاث ومتاحف تروي تاريخ البلد والمنطقة.
تحفة معمارية وحصن للمرجعية الوطنية
يرى أستاذ الشريعة والقانون في جامعة وهران بلخير طاهري في حديث إلى الميادين نت أن “الجامع الأعظم قلعة من قلاع الإسلام، وتحفة معمارية ذات أبعاد أثرية، ترشد إلى أصالة هذا الشعب، وتمسكه بهويته وعقيدته”.
ويقول رئيس رابطة دعاة وأئمة منطقة الساحل بزاز لخميسي لـلميادين نت إن “الجامع بمثابة حصن حماية للمرجعية الفكرية والدينية الوطنية، من الأفكار والتيارات الداخيلة، التي لا تكلّ من محاولة ضرب عقيدة هذه الأمّة”.
تضمّ أرض “المحمّدية” اليوم أكبر مسجد في أفريقيا، والثالث في العالم، بعد الحرمين الشريفين، يمتدّ على مساحة 27 ألف هكتار، ويتّسع لنحو 120 ألف مصلٍّ، وتنفتح أبوابه الأربعة: “النصر”، “الفتح”، “المحمدية”، و”المصالحة” أمام آلاف الطلبة والباحثين والزوار، الذين يشدّهم التاريخ إلى مكان كان مسرحاً لأحداث عظيمة.
Al-Mayadeen