سعيد خطيبي
قرن من الزمن مرّ على زيارة شارلي شابلن إلى الجزائر، هذه الزيارة المفاجئة، لممثل يستحق أن يوصف بالشاعر، نظير ما قدمه من قيمة شعرية للسينما، وهو الذي عاش ثلاث حيوات، طفلا ثم مراهقا فقيرا في لندن، يجهل نسبه، ولم يعرف سوى أمه مع أخٍ غير شقيق. تلك الأم التي عانت من نوبات جنون، وفقدها فعلاً قبل أن يتوقف قلبها عن الخفقان، بعدما كانت سبباً في تعلقه بالمسرح، ثم حياة نجومية تكرست في أمريكا، فصار أشهر اسم بداية القرن الماضي، يكفي أن تظهر صورته على الشاشة كي يشرع الناس في الضحك، ثم حياة رحالة وكاتب.
فبين 1931 و1932 طاف بين ثلاث قارات، زار ألمانيا، إيطاليا، النمسا، سريلانكا، إندونيسيا، اليابان… وكذلك الجزائر، التي حلّ بها تزامناً مع احتفال الفرنسيين بمرور مئة سنة على احتلال البلاد، لكن شارلي شابلن (1889-1977) كانت له وجهة أخرى إزاء التاريخ الكولونيالي، والجزائر التي حكى عنها في كتابه «رحلتي حول العالم» ليست هي الجزائر التي روجت لها فرنسا، لقد شاهد أشياء جعلته يتحول من الهزل إلى تسييس الضحك، فصار خصماً لمكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي وصفه بعدو الرأسمالية.
في شتاء 1931، نزل إلى الصالات الفيلم الصامت «أضواء المدينة» ولم يتحمس له تشارلي بحكم تزامنه مع بدايات السينما المتكلمة، وخشي أن يصير، في بضع سنين، ممثلاً تجاوزه الزمن، لذلك فكر في أن يخرج من الإحباط بالذهاب في جولة صوب بريطانيا، ومن هناك نحو وجهات أخرى، وهي رحلة سوف تنسيه ـ كما فكر ـ في مشاكله مع زوجته الثانية ليتا غراي، التي طالت إجراءات طلاقه منها، كما كان أيضاً يود الابتعاد عن مطاردات الضرائب الأمريكية له. لم تكن الجزائر ضمن وجهاته، لكن خطة زيارتها ألحت عليها عقب زيارته جنوب فرنسا (نيس وموناكو) وبعد لقائه مع صحافي فرنسي من جريدة يسارية، أقنعه بالتوجه جنوباً، مثلما أقنعه بتدوين رحلاته حال عودته إلى أمريكا.
الرومانسية الجزائرية
«كلمة الجزائر تحمل شيئاً من الرومانسية التي تستفز مخيلتي» هكذا كتب شارلي شابلن، لقد ترسخت في بال هذا الممثل صورة استشراقية عن البلاد، قبل أن يصل إليها، تصور أنه بمجرد أن ينزل من الباخرة، سوف يُصادف رجالاً يلبسون جبباً ويمتطون ظهور أحصنة، تخيل أن يرى قبائل تطوف في الأرض، لا مواطنين عاديين، يرتدون ما يرتديه الأوروبي. ولم يكن شارلي مخطئاً في تصوراته، فهو أيضاً كان ضحية الدعاية الكولونيالية، التي طالما صوّرت سكان المستعمرات كما لو أنهم يعيشون في القرون الماضية، وأنهم لم يدخلوا حيز المدنية، تماشياً مع النظرية الفرنسية التي تبرر الاستعمار من منطلق كونه حملة «تمدين» شمال افريقيا. ظن تشابلن أنه سينزل في مدينة تتيح لزائرها التمر، فالتمر هو أول شيء فكر فيه، معتقداً أنه سوى يرى نخيلاً مثمراً، لكنه سرعان ما تدارك نظرته الخاطئة، فكتب: «إنني أكن الكثير من الاحترام لنمط عيشهم». فقد أدرك الفجوة التي تفصل بين مجتمعين في الجزائر آنذاك، مجتمع فرنسي يحوز الامتيازات، ومجتمع الأهالي الذي يعيش في الهامش، وقد اهتم في كتابه بالمجتمع الثاني أكثر من الأول، هذا المجتمع الأخير الذي وصفه ﺑ«ضحية التصنيع» أي أنه ضحية استغلال من طرف الفرنسيين الذين يمتلكون السلطة والسلاح. ولم ينس في سياق تأملاته أن يصف الجزائريين ﺑ«أبناء عمر الخيام» وهو توصيف استلهمه من أشكال أزيائهم ونمط عيشهم.
«كلمة الجزائر تحمل شيئاً من الرومانسية التي تستفز مخيلتي» هكذا كتب شارلي شابلن، لقد ترسخت في بال هذا الممثل صورة استشراقية عن البلاد، قبل أن يصل إليها، تصور أنه بمجرد أن ينزل من الباخرة، سوف يُصادف رجالاً يلبسون جبباً ويمتطون ظهور أحصنة، تخيل أن يرى قبائل تطوف في الأرض، لا مواطنين عاديين، يرتدون ما يرتديه الأوروبي.
حين سمع شارلي شابلن عن الجزائر، في جنوب فرنسا، لم يسمع عنها من منظور سياسي، وأنها تحت احتلال، بل سمع عنها بوصفها وجهة سياحية وطبية، وذلك ما يشير إليه في كتابه، حيث يتحدث كيف أن عاصمة البلاد صارت، بدايات القرن الماضي، مكانا للتطبيب وللاستجمام، بفضل مناخها المعتدل، الذي يجعلها مقصد المصابين بالسل، وكذلك مقصد من يودون الفرار من قساوة الشتاء في دول الشمال.
طوفان بشري
كل المدن التي زارها شارلي شابلن في رحلته الطويلة، كان مخططاً لها، فكان يقصد الأمكنة تلبية لدعوة من مسؤول أو من فنان، عدا رحلة الجزائر العاصمة كانت مرتجلة، لم ينو أن تطول أكثر من أسبوع، ولم يُعلن عنها، لكن «التليفون العربي» كما نقول، قام بعملها، وبمجرد رسو الباخرة في الميناء، سرى النبأ بين الأذان، ولم يصدق وهو يخرج من الباخرة أن يرى طوفاناً من البشر في استقباله.
«إن العربي الذي تشبع بفلسفة عمر الخيام لا بد أن يكون محباً للسينما» هكذا كتب وهو يرى الجموع تهلل اسمه مرحبة به. «لقد رأيت آلاف الأشخاص يصطفون في طريقي إلى الفندق». لقد استقر في فندق أليتي، الذي صار اسمه فندق السفير، قبالة الواجهة البحرية للمدينة. وخلال جولاته، يقدم هذا الممثل الهزلي توصيفاً لمعمار المدينة، يشبهها بالمدن الفرنسية، التي زارها سلفاً، «فلولا ثياب الأهالي الذين يرتدون ملابس تقليدية لظننت أنني في مدينة فرنسية أو إسبانية».
كما دوّن أيضاً زيارته إلى القصبة، وما شاهده من حرفيين يمارسون مهنهم كما كان يفعل أجدادهم قبل قرون. لكن أكثر مكان ود شارلي شابلن زيارته لم يتحقق له الوصول إليه، بسبب مطاردة عشاقه له، في كل حين، فكلما خرج من الفندق وجد المئات يترقبونه قصد مصافحته، أو الحديث إليه، والمكان الذي رجا زيارته، هو «الضريح الملكي الموريتاني» في تيبازة، جنب العاصمة، الذي بنته كليوباترا سيليني الثانية، ابنة كليوباترا ملكة مصر الفرعونية.
تعذر عليه إذن زيارة أهم مكان رغب في الوصول إليه، فقد كان الأمر يستلزم، كل مرة، تدخل الشرطة قصد تفريق الجموع الملتحمة حوله. فغادر الجزائر على أمل العوة إليها في وقت لاحق، لكن لم يتحقق له ذلك، وأورد توصيفات للمدينة بعيداً عن النظرة الاستعمارية، التي كانت تسخر من ساكنتها الأصليين، وظلت أفلام شارلي شابلن تُعرض في القاعات، قبل الاستقلال وبعده، والأذهان تتذكر زيارته تلك، التي إن لم يخطط لها ولم تدم سوى أسبوع، فقد دونها في كتابه، وخرج منها بانطباعات سوف تغير سيناريوهات أفلامه ويصير معادياً للبورجوازية الكولونيالية.
روائي جزائري
alquds.co.uk