شهدت فرنسا يوم 4 ديسمبر 2024 حدثًا سياسيًا جللًا بسقوط حكومة ميشيل بارنييه، ولم يكن التصويت على قانون المالية سوى القشة التي قصمت ظهر البعير. بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، بفضل اختيار صعب فرضه على الناخبين بينه وبين مارين لوبان، واجه ماكرون انتقام الناخبين في الانتخابات التشريعية بتحويل الجمعية الوطنية ضده ومنعه من تحقيق أغلبية.
جاءت الانتخابات الأوروبية في يونيو الماضي لتزيد الأمور تعقيدًا بفشل مرشحي ماكرون، مما دفعه إلى خطوة محفوفة بالمخاطر بحل الجمعية الوطنية. لكن هذه الخطوة جاءت بنتائج عكسية، حيث هيمن على البرلمان الجديد تياران متطرفان: اليسار واليمين المتطرف، ما أدى إلى سقوط حكومته الأخيرة عبر تصويت بحجب الثقة.
الرئيس ماكرون متمسك بالحق القانوني لرئاسته، لكنه فقد الشرعية التي يرفضها الناخبون مع كل محطة انتخابية. للمرة الثانية في تاريخ الجمهورية الخامسة، تسقط حكومة بتصويت على حجب الثقة، ما يطرح تساؤلات جدية حول استقرار النظام السياسي الفرنسي.
بين الماضي والحاضر: إرث الجمهورية الخامسة
شهدت فرنسا تجربة مشابهة في أكتوبر 1962 عندما سقطت حكومة جورج بومبيدو بسبب معارضة مشروع دستوري قدمه شارل ديغول، الذي لجأ بعدها إلى استفتاء شعبي لتجاوز الأزمة، ما أثبت قدرته على فرض رؤيته السياسية رغم المعارضة.
الجمهورية الخامسة، التي تأسست في عام 1958، خضعت لعدة تعديلات على مدى نصف قرن. من أبرزها تقليص مدة الولاية الرئاسية إلى خمس سنوات في عهد شيراك وتحديد عدد الولايات الرئاسية بولايتين في عهد ساركوزي. لكن هذه الإصلاحات لم تعالج جذور التوترات السياسية التي تستمر في الظهور عند كل أزمة.
تاريخ من التقلبات السياسية
التجربة الجمهورية في فرنسا لم تكن طريقًا معبدًا. منذ الثورة الفرنسية عام 1789 وبيان حقوق الإنسان والمواطن، عاشت البلاد قرنًا من الاضطرابات بين الملكية والجمهورية والإمبراطورية. شهدت فرنسا ثلاث ملكيات دستورية، وجمهوريتين، وإمبراطوريتين قبل أن تستقر على الجمهورية الثالثة في عام 1875، التي كرست النظام الجمهوري بشكل نهائي بعد التخلي عن الملكية.
ومع ذلك، استمرت الأزمات، حيث انتهت الجمهورية الثالثة بانهيارها أمام ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، ثم ولدت الجمهورية الرابعة التي لم تصمد طويلًا أمام الثورة الجزائرية، ليأتي ديغول ويؤسس الجمهورية الخامسة، التي أصبحت اليوم على المحك مجددًا.
هل نعيش نهاية الجمهورية الخامسة؟
مع سقوط حكومة ماكرون، باتت فرنسا أمام مفترق طرق. هل سيستمر النظام الحالي في الصمود أمام الأزمات المتلاحقة، أم أن فرنسا على أعتاب تغيير سياسي جديد؟ من الواضح أن الشرعية الشعبية هي التحدي الأكبر الذي يواجه الجمهورية الخامسة، كما كانت الحال في أزمات سابقة.
قد تكون الأيام القادمة حاسمة في تحديد مستقبل هذا النظام الذي يواجه ضغوطًا داخلية متزايدة وواقعًا سياسيًا متغيرًا على المستوى الأوروبي والعالمي.