السؤال الآن موجّه إلى العرب جميعاً في جميع أقطارهم، وإلى مليار ونصف مسلم على هذه الكرة الأرضية: هل تعتقدون أن دمكم أغلى من دم الفلسطيني واللبناني في نظر هؤلاء المجرمين الذين استباحوا دم إخوانكم وأخواتكم؟
بعد عام كامل من خرق الكيان الصهيوني في فلسطين ولبنان واليمن وسوريا لكل الأعراف والمواثيق والقوانين الدولية، وانتهاكه لكل قوانين الحروب التي لم يتم انتهاكها حتى في الحربين العالميتين، وبعد عبثه الوحشي اللامسبوق بحياة النساء والأطفال والآمنين وعمال الإغاثة والكوادر الطبية، والتي راح ضحيتها مئات الألوف من المدنيين الأبرياء وتهجير الملايين بعد تدمير منازلهم، وبعد خرقه كل المحرمات التي اتفقت البشرية على احترامها بشتى الطرق، قامت قوات هذا الكيان بالاعتداء على مقرّ قوات “اليونيفيل” في لبنان فدمّرت محتوياته بينما كان موظفو “اليونيفيل” يقبعون في الملاجئ، وهنا فقط قرّر أعضاء “الأسرة الدولية” الغربية، أو معظمهم، كسر حاجز الصمت وإعلاء الصوت بأن هذا الاعتداء يمثل استباحة وانتهاكاً لجميع الاتفاقيات الدولية والقانون الدولي، ولا يمكن التسامح مع هذا الحادث وأنه يجب التحقيق فيه وإدانته ووقف تزويد الكيان بالأسلحة.
في الوقت ذاته، أوصل الكيان الصهيوني كل المشافي والخدمات الطبية في شمال قطاع غزة إلى حالة من الشلل الكامل، بعد رفض السماح إيصال الوقود والأدوية، وبعد أن قتل المئات من الكوادر الطبية المؤهلة التي لا توجد بدائل لها، وبعد أن دمّر البنية التحتية لمعظم المنشآت الطبية في القطاع، ومن ثمّ في الضفة. واليوم، يقوم بالأمر ذاته في لبنان، بل منع الطعام والماء والدواء عن المحاصرين في مخيمات نزحوا إليها بعد جرائم العدوان الشنيعة ضد الشعب الفلسطيني منذ القرن الماضي وحتى اليوم. والسؤال هو: هل من المقبول لهذا الكيان المتوحش أن يسفك الدم الفلسطيني أنّى وكيف يشاء؛ لأن هذا الدم لا يساوي بنظر الغرب دم موظفين أممين؟! ذلك لأن التحرك الوحيد اللفظي على الأقل الذي سبق هذا التحرك كان حين استهدفت قوات الكيان الغاصب عمال الإغاثة في غزة وقتلت عدداً منهم.
هل يمكن الاستنتاج هنا أن دم عشرات الآلاف من الأطفال الأبرياء ومئات الآلاف من النساء والرجال الفلسطينيات والفلسطينيين واللبنانيات واللبنانيين مستباح، ولا يثير غضب أحد، ولا يحرّك ضمير أحد في الغرب “المتحضر”؛ لأنه يُعدّ دماً من الدرجة الثانية مثلاً، وليس من الدرجة الأولى التي تثير الغضب والاستنكار والإدانة والعمل لوقف هذا النوع من الإجرام. حتى موظفو “الأونروا” والعاملون بها لم يثيروا غضب الأسرة الدولية حين قتل الكيان المئات منهم وهم يقومون بأقدس مهمة إنسانية للاجئين الذين تمّ تهجيرهم من أرضهم وديارهم مرات ومرات؛ لأنهم ليسوا غربيين، وحتى منظمة الصحة العالمية تسجل فقط أعداد الأطباء والكوادر الطبية التي تمّ استهدافها على أيدي شرذمة الكيان من دون أن يثير ذلك غضب أو استنكار أحد.
السؤال الآن موجّه إلى العرب جميعاً في جميع أقطارهم، وإلى مليار ونصف مسلم على هذه الكرة الأرضية: هل تعتقدون أن دمكم أغلى من دم الفلسطيني واللبناني في نظر هؤلاء المجرمين الذين استباحوا دم إخوانكم وأخواتكم، وانتهكوا كل الحرمات القانونية والشرعية والاتفاقات والنظم الدولية وحتى قوانين الحروب وأعراف الأسْر.
هل تعتقدون أنكم ستكونون في منأى من استهدافهم، أو أن أحداً سينتصر لكم إذا ما تمّ استهدافكم إلا كما انتصرتم لفلسطين ولبنان؟ أولا ترون أن هذا العدو الآثم يعمل على الاستفراد بكم واحداً تلو الآخر، وأنّ التوقيت بالنسبة إليه أمر في غاية الأهمية، فإذا صمتّم اليوم ستصمتون إلى الأبد، ولن تتمكنوا من قول شيء أو فعله أو التأثير في شيء بعد فوات الأوان.
أما الإعلام الغربي فهو يصدّر إلى قرائه حالة لا علاقة لها بما يجري على أرض الواقع ولا بأخلاقياته أو إنسانيته أو عدمها. فهو لا يرى أطفالنا ولا نساءنا يُذبحون في أبشع المجازر التي شهدتها البشرية، ولا يرى إزاحة تاريخ كامل لشعوبنا المتجذّرة، بل ينشر تقارير أمثال التقرير الذي نشره “ويلسون سنتر” في 3/10/2024 وتضمّن مقالات لجيمس جيفري وديفيد هيل وآخرين يُعملون فيها خيالاتهم عن الأخطار الإيرانية والعربية المحدقة بالكيان الصهيوني، وهو الذي يعيث في الأرض قتلاً وتدميراً وبأسلحة وقنابل أميركية محرّم استخدامها بالقرب من المدنيين.
إنّ قراءة ما يفيض به الإعلام الغربي عمّا يجري في منطقتنا تكشف عنصرية مقيتة معهودة ولكن غير مسبوقة، وتجاهلاً مطلقاً لقيمة الحياة البشرية للعرب ومعاناتهم، ومدى الألم والفقد والعوز والجراح اللاإنسانية التي يتسبب بها هذا العدوان الوحشي لهم من اقتلاع لذاكرتهم ومنازلهم وأجيالهم، وتشظٍّ لمجتمعاتهم ومحرقة لجيل كامل من أبنائهم وأسرهم من دون أن يرمش لهذا الاحتلال أو لداعميه رمش. إن دلّ كلّ هذا على شيء فإنما يدلّ على عنصرية تسري في عروق الغرب ضد كل من هو ليس غربياً، وخصوصاً ضد العرب والمسلمين، وهنا تكمن الخطورة الكبرى. لأن هذا التوجه وهذا المعتقد مناقض لخلق الله ولما أراده الله لهذا الكون كي يعمر، وكي يهنأ سكانه بالأمن والسلام والحياة الحرة الكريمة. قال الله تعالى في كتابه الكريم: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم”.
هذا في كتاب الله الذي يعدّه البعض للمسلمين فقط وما هو للمسلمين فقط، ولكنه لبني البشر وللإنسانية جمعاء. وفي آية أخرى يقول:”ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم” أي أن الاختلاف هو من آيات الله، وهو نعمة لبني البشر، ولا فرق بين أتباع دين وآخر إلا بالتقوى، أي بالإيمان والعمل الصالح للأخوة في الإنسانية.
وهذا يعني أن العنصرية التي عبّر عنها الغرب بشكل خاص في دعمه لجرائم الكيان ضد العرب والمسلمين هي مشكلة بنيوية ومجتمعية في المجتمعات الغربية، ولن تتوقف منعكساتها عند معاناة أهلنا في فلسطين ولبنان -رغم مرارتها وشدة وطأتها– ولكنها ستطال مجتمعاتهم أيضاً، عاجلاً أم آجلاً، وما العدوان على قوات “اليونيفيل” إلا كسر آخر لمحرمات لم يكن أحد يمس بها من قبل، وما كسر كل هذه المحرمات وتجاوز كل هذه الخطوط الحمر وانتهاك حرمات لم يسبق انتهاكها أبداً في التاريخ سوى نواقيس خطر للإنسانية برمّتها، والتي شاءت أم أبت تشترك في مستقبل واحد ومصير واحد، وما السماح لكيان آثم بالعبث بمصائر الناس في فلسطين ولبنان سوى مقدمة للعبث بمصائرهم في أي زمان ومكان، فهل تستيقظ الأسرة الإنسانية برمّتها على الخطر الداهم قبل فوات الأوان؟ وهل يستيقظ الغرب ومجموعة السبع ويكفوا عن دعم كلّ هذا الإجرام من خلال قراراتهم المُخجلة، والتي تبحث فرض عقوبات فقط على من يواجه هذا القتل والدم والمجازر، بينما يدعون الوحش المنفلت من عقاله يحظى بتأييدهم المباشر وغير المباشر كي يستمر في إجرامه.
رغم كلّ الألم الذي يفرضه هذا الوحش على العرب في بلدانهم من فلسطين إلى لبنان وسوريا واليمن، فإنّ أثمان ما يجري لا يمكن اكتشافها خلال أيام أو أشهر.
ومع إن المنتشين بما ينجزونه من مجازر وتهجير وقتل وتدمير وأعوانهم يحلمون بنزع سلاح حزب الله أو فرض نظام جديد في الشرق الأوسط، فلا شكّ أنهم غير قادرين على التحكّم بتمسك الأجيال بحقوقها وحقّ الدفاع عنها من جهة، كما إنّ الولايات المتحدة قد دفعت ثمناً باهظاً من قيادتها العالمية.
فالولايات المتحدة اليوم تظهر شريكة لنتنياهو أو أنها غير قادرة على التأثير في حليفها الأساسي، وفي كلتا الحالتين فإنّ هذا يلحق ضرراً شديداً بصورة الولايات المتحدة ومصداقيتها وقدرتها على تسيير النظام الدولي بما يخدم قضايا العدالة والأمن والسلام، وهذا لن يحقّق الأمن للكيان الصهيوني ولا الدور الرائد للولايات المتحدة في العالم. تعود حضارة العرب في هذه المنطقة إلى آلاف السنين قدّموا خلالها للعالم أرقى العلوم والفلسفة والموسيقى والزراعة، ولن تتمكّن قوّة غاشمة من تجريف هذه الذاكرة الغنية المتوارثة ولكنّها قد تودي بمن يدعمها من دون حساب ظلماً وعدواناً.